إسقاط النظام.. عنوان الثورة العراقية الكبرى
5 نوفمبر 2019
بالقوة، فقد رد عليهم الثوار: جرّبوا حظكم تجدونا بصدورنا العارية سدا منيعا في وجوهكم، لا يمكنكم النّيل من عزيمتنا وإرادتنا لاسترجاع حقوقنا كاملة.
في المقابل، لم يعد في وسع أية جهة، مهما بلغت من قوة، ركوب الثورة، لا من داخل العملية السياسية، ولا من خارجها. وخير مثال على ذلك فشل مقتدى الصدر في تكرار لعبته المكشوفة بتنصيب نفسه زعيما للثورة، وحرمانها من فرصة إسقاط النظام، كما فعل بعد دخول الثوار المنطقة الخضراء، وهروب الحكومة وأعضاء البرلمان بطريقة مخزية ومهينة. مثلما لا تستطيع أية جهة من خارج العملية السياسية، حتى وإن كانت في قمة الوطنية، فعل الشيء
نفسه، فالثورة العملاقة قد أعلنت أن العراق شعارها، وأن عقيدتها، “نازل آخذ حقي” ووقودها كل أبناء الشعب العراقي، بمختلف فئاته ومذاهبه وأديانه وقومياته وعقائده، فالثورة العظمى لا تمثل حزبا ولا جماعةً ولا فئة ولا مذهبا ولا غيره، وإنما تمثل عموم الشعب العراقي.
هذه المواقف الناضجة والرؤية الثاقبة المقرونة بالصمود الأسطوري بوجه القوة العسكرية الغاشمة، أو بوجه وسائل الخداع والتضليل، أو حزم الإصلاحات، ترقيعية كانت أو توحي بالجدّية، لم تأت من فراغ، وإنما جاءت جرّاء مراجعة نقدية لمسيرة الانتفاضات التي سبقت الثورة، واستخلاص دروس النجاح والفشل من جهة، والمعاناة والسجون والمعتقلات والدماء من جهة أخرى، خصوصا وأن الوقائع أثبتت أن منح مزيد من الفرص أو الوقوف في خانة الانتظار أو المراهنة على هؤلاء الأشرار لم تجلب سوى مزيد من الفساد واللصوص، ومزيد من الجوع والمرض وانتشار المخدرات والعصابات والمافيات، بل تحول هذا الصمود الأسطوري إلى قناعات راسخة بشأن الطبيعة البنيوية الرثة لهذه السلطات الحاكمة، والأسس التي تستند إليها من محاصصة طائفية وعرقية ومليشيات مسلحة، وغياب القانون وفساد مالي وإداري، شمل جميع مؤسسات الدولة ومرافقها. تتعاكس هذه الطبيعة البنيوية مع أي مشروع إصلاحي، مهما كان متواضعا. ناهيك بأن هذا الفساد المستشري لم يقتصر على أفراد أو حزب أو وزارة أو مديرية عامة، ولا يخص أعضاء لجنة أو مفوضية، أو قاضيا أو عضوا في محكمة أو موظفا، كما هو الحال في الدول الأخرى التي تعاني من هذه الآفة، وإنما شمل كل مؤسسات الدولة، من أعلى سلطة فيها، مثل الحكومة ومجلس النواب والقضاء، إلى أصغر سلطة حكومية، كالمديريات العامة. ولكن هذا ليس كل شي، فما يحدث من خرابٍ ليس من صنع هؤلاء فحسب، وإنما هو تنفيذ لما تمليه إرادة المحتل الأميركي الإيراني، وإصرارهما
على تدمير العراق، دولة ومجتمعا، تدميرا كاملا، وبمباركةٍ من المرجعيات الدينية، وبتسويق من منظمات مجتمع مدني، ليتحول، فيما بعد، إلى وحش عملاق وغول أخطبوطي تمتد أذرعه في مناحي الحياة كافة، لتشكل، في نهاية المطاف، سلوكا يوميا مستساغا، على أمل إفساد الشعب، بحيث يصبح خنوعا مستسلما وراضيا بما يتعرّض له من مصائب وويلات.
أما الطامة الكبرى، فإن هذا الفساد المستشري لم يكن وليد المصادفات السيئة، وليس بسبب عدم كفاءة أو نقص في الذمة أو خلل في الضمير، كي يأمل الناس في استبدالهم أو إقصائهم أو محاكمتهم، كما لم يكن سببه الجشع والطمع، كي تجري المراهنة على اكتفاء هؤلاء بما جنوه من أموال طائلة، وإنما كان نتيجة مخطط مدروس بعناية فائقة من المحتل، كحلقة هامة من مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا، وأن هؤلاء قد جرى انتقاؤهم بدقة أيضا لتنفيذ هذا المخطط الغادر، ومنع أية محاولة شعبية لإسقاطه. وهذا ما يفسّر لجوء هؤلاء إلى اتباع كل الوسائل لإشغال العراقيين، من خلال افتعال حروب طائفية وأهلية، أو تقسيم فئات المجتمع بين مسلم ومسيحي وصابئي، أو شيعي وسني، أو تقسيم المجتمع إلى مكونات، مثل كرد وشيعة وسنة، على العكس تماما، حين كان الناس يتباهون بالوحدة الوطنية والاعتزاز بالهوية العراقية والانتماء للوطن، والأخوة والعيش المشترك.. إلخ.
وبالتالي، ما يبشر به عادل عبد المهدي وبرهم صالح ومحمد الحلبوسي والمرجعيات الدينية حول إمكانية الإصلاح هو مجرد كذبة كبيرة واستخفاف بعقول الناس، فالفاسد لا يحاسب نفسه أو يطبق القوانين والأحكام التي تدينه. ثم إن سياسة من هذا القبيل لا ترتبط بقرارات ورغبات، أو اختزالها بشعاراتٍ رنانة، بقدر ما ترتبط، بشكل كبير، بسلوكيات الحاكمين والمؤسسات والجهات الرسمية وغير الرسمية، بل إن رفع راية الإصلاح أصبح بمثابة التعويذة التي يتمتم بها الحاكم بصوت عال، كلما تصاعدت حدّة الاستياء الشعبي واحتمال تحوله، في أية لحظة، إلى ثورةٍ شعبيةٍ، تنذر بسقوطه ومواجهة مصيره الأسود. ولنا في عدم محاسبة سرّاق المال العام، أو، فاسد من رموز الحكومة، أو إجراء أي إصلاح متواضع، يخدم المواطن خير دليل على ذلك، بل على العكس تماما، حيث يجري تكريم الحرامي أحيانا، أو ينقل من منصبه إلى منصب آخر، ربما يكون أكثر أهمية من حيث تحقيق المكاسب غير المشروعة.
وفق هذا السياق، جاءت مطالب الثوار العشرين التي تعتبر سدى الثورة ولحمتها: إسقاط الحكومة، وتقديم عادل عبد المهدي للمحاكمة، بتهمة قتل المتظاهرين، وحل البرلمان، وكتابة دستور بعيدا عن أطراف العملية السياسية، وإبعاد المؤسسة الدينية عن التدخل في السياسة،
واستعادة أموال العراق المنهوبة ومحاكمة اللصوص والمسؤولين، وتشكيل مجلس قضاء جديد مستقل، وإلغاء المحاصصة في الدولة، وحل المليشيات المسلحة، وحصر السلاح بيد الدولة، وإجراء انتخاباتٍ بإشراف أممي، يمنع الترشح فيها من جميع أطراف العملية السياسية، إضافة إلى تأسيس جيش عراقي جديد، بعقيدة جوهرها الدفاع عن الوطن وحماية المواطن، وحل الأجهزة الأمنية التي مارست القمع والقتل ضد المواطنين، وتشكيل أجهزة أمن جديدة، عقيدتها الجوهرية حماية المواطن، وليس الدفاع عن السلطة، وجعل الحكم رئاسيا، وقانون جديد للانتخابات، وتشكيل محكمة لمحاكمة الفاسدين وإلغاء كل الامتيازات للرئاسات الثلاث، وتعليق عمل مؤسستي الشهداء والسجناء السياسيين، وحل هيئة النزاهة وإلغاء الدرجات الخاصة.
نعم هناك محاولات غادرة تخطط لها سلطة المنطقة الخضراء، وبالتنسيق مع الإيراني قاسم سليماني، وبالتعاون مع المليشيات المسلحة، لكن جميع هذه المحاولات ستفشل، في نهاية المطاف، فالشعوب حين تتحد وتثور على الظلم والطغيان، ما من قوة في الأرض تصمد في مواجهتها. هذا ما أخبرنا به التاريخ، وهذا ما يسطره اليوم شعب العراق من ملاحم نادرة.
اليوم يعبر شعب العراق عن أصالته وقوته ووحدته الوطنية واستعداده للتضحية من أجل الوطن، ولا توجد علامة في الأفق تؤشر على تراجع هذه الثورة عن مطالبها كاملة غير منقوصة، أو كما عبر أحد الثوار بلغة بسيطة ومختصرة، وهو يخاطب الحكومة: إما أنتم أو نحن. بل يحق للعراقيين اليوم أن يفتخروا بثورتهم، ويعتبروها كعبة الثورات في تاريخ البشرية، فلا أحد يستطيع أن يقفز على حقيقة أنها ثورة شباب بصدور عارية وقبضات فارغة، إلا من العلم الوطني في مواجهة احتلالين، أميركي وإيراني، ونظام إقليمي ودولي مدجج بالأسلحة والمال الحرام.