الغزو الفكري، الغزو الثقافي، الغزو الإعلامي، الاغتیال الثقافي، القهر الثقافي، اختطاف الهویة، اغتيال الهوية، استلاب الهوية، استلاب الشخصية، القهر السلوكي، التغريب الفكري، التغريب الثقافي، التغريب السلوكي؛ كلها مصطلحات ومفاهيم تدخل في إطار مشروع واحد، هو المشروع الاستعماري الغربي الهادف الى تغريب مجتمعات العرب والمسلمين، لغايات استعمارية وسلطوية.
والحديث عن التغريب لايمثل حديثاً نظرياً وبحثاً ترفياً، بل هو لصيق بواقع المجتمعات المسلمة كافة، ودون استثناء، لأن هذه المجتمعات تعيش مظاهر كبيرة للتغريب الفكري والسلوكي والمؤسسي، على مستويات الفرد والمجتمع والدولة.
نقصد بالتغريب: اتخاذ الغرب مرجعية، على مستوى مناهج التفكير، والنتاجات الفكرية والمفاهيم والمصطلحات، والثقافة العامة والخاصة، والسلوك الفردي والمجتمعي، وهو ما يتعارض مع الهوية العربية والإسلامية الفردية والمجتمعية التي تستند الى العقيدة الإسلامية في التفكير والسلوك، وهي مرجعية القرآن والسنة النبوية ثم مرجعية المذاهب (الاجتهاد ) المتفرعة عنها، إضافة الى العادات والتقاليد المحلية التي لاتتعارض مع العقيدة الإسلامية، وهي غالباً عادات وتقاليد حميدة محافظة ومتوازنة.
ان الله تعالى قد نهى المسلمين عن اتخاذ المسيحيين واليهود مرجعية، وهم أهل كتاب ((يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضُهم أولياءُ بعض، ومن يتولّهم منكم فإِنّه منهم، إِنّ اللّه لا يهدي القوم الظالمِين))، ((يا أيها الذين آمنوا لَا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء، ۚواتّقوا اللّه إِن كنتم مُؤمنين)) ؛ فكيف بالمسلم اليوم وهو يتخذ النصارى واليهود خاصة الذين تحولوا الى ملحدين وعلمانيين مرجعية وأولياء ومبشرين وسياسيين وفكريين وثقافيين؟!.
وتعد فئات المراهقين والشباب والنساء اليوم الأكثر استهدافاً في عملية التغريب، وتحديداً المرحلة العمرية 14 ــ 35 سنة، وهي عادة مرحلة تلقي واستقبال وانجذاب وانفعال، ويكون فيها الإنسان أكثر قابلية ذاتية على التماهي والحفظ والتقليد، شعوراً ولا شعوراً، أكثر منها مرحلة عطاء وفعل واستقطاب وجذب. وإذا تشكلت شخصية الإنسان وفق قواعد غريبة أو قوالب فكرية وثقافية وسلوكية معينة والذي نشهدها اليوم في مجتمعنا في هذه المرحلة العمرية؛ فسيكون من الصعب إحداث تغيير واختراق فيها عندما يتقدم في العمر.
إن التغريب المجتمعي هو أهم مخرجات الغزو الشامل الذي تقوم به المدنية الغربية للشعوب الأخرى منذ أكثر من قرنين، وهي المدنية التي أفرزها ما يسمى بعصر الأوروبية، وما رافقه من احتلال عسكري مباشر لأراضي بلدان الجنوب، أي البلدان العربية والإسلامية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، وهيمنة اقتصادية، ونهب للثروات، وتصدير للأفكار والثقافات والمنهجيات، والنظم الالحادية والعلمانية وتشكيل جماعات من العملاء السياسيين والعسكريين والفكريين والثقافيين والمخابراتيين.
هذا الغزو الشامل هو مظهر للصراع الجدلي بين الأمم والحضارات والمدنيات والشعوب، والذي تتمكن من خلاله الحضارة أو المدنية المتفوقة والأمة المتفوقة مادياً أو معنوياً من فرض وجودها وسياساتها وأدبياتها وثقافتها ومفاهيمها وتقاليدها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والمجتمعية على الأمة المنهزمة المقهورة. وهذه هي سنة الله في خلقه ((لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساحد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )) . وبالتالي؛ لايمكن في إطار نظرية التدافع الطبيعي، أن نلوم الأمة المتفوقة على فرض شروطها على الأمة المنهزمة المتخلفة، إلّا بمقدار ما نلوم الأمة المنهزمة نفسها، والتي سمحت لعوامل الهزيمة بالتسلل اليها.
وظل الغازي الغربي يستهدف في عملية تغريب المجتمعات العربية المسلمة الرخوة، ثلاثة مستويات: الفرد العربي المسلم، والمجتمع المسلم، ودولة المسلمين، سواء في المرحلة التي كانت فيها الدولة التركية تهيمن على أغلب البلدان العربية الإسلامية، أو مرحلة تأسيس الدول القومية والوطنية. وكانت المرحلة الأخيرة التي بدأت بعد سقوط الدولة العثمانية هي الأكثر ضغطاً وشراسة وتركيزاً، وهي المرحلة التي لاتزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم؛ إذ تتوجت عملية الاستهداف الغربي للواقع العربي والإسلامي بتأسيس أنظمة سياسية مرتبطة بالدول الغربية المحتلة ارتباطاً عضوياً ووظيفياً، وقد عملت هذه الأنظمة اليوم على توفير كامل الظروف للنفوذ الثقافي والفكري الغربي، من أجل تحقيق أهدافه في ضرب قواعد الثقافة العربية والإسلامية وعناصرها النظرية والبشرية، واستلاب الهوية العربية والإسلامية أو تشويهها وحرفها حداً أدنى، وصولاً الى الأعراف والتقاليد الاجتماعية وهذا ما يحدث اليوم وذلك بذريعة التحرر والتطور والتقدم والعلم والنماء الفردي والاجتماعي، والقضاء على التخلف والرجعية والفقر !؟ وهي شعارات أثبت تقادم الزمن أنها كانت لمجرد الاستهلاك الدعائي وحرف الأنظار عن حقيقة ما يضمره الغرب من أهداف استعمارية تخريبية تدميرية ، تضمن له هيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية الأبدية على بلدان العرب والمسلمين، بمساعدة الأنظمة المحلية المرتبطة به وعملائه واعوانه .