بقلم: محمد ابراهيم عباس المحمدي، كاتب ومحلل سياسي وإنساني لشؤون الشرق الأوسط
إن استقرار الشرق الأوسط الجديد وتنميته المستدامة لا يمكن أن يتحققا بمعزل عن استقرار العراق. فالعراق، الذي طالما اعتُبر البوابة الشرقية للوطن العربي، يحمل اليوم مفتاح صمام الأمان للمنطقة بأسرها. موقعه الاستراتيجي لا يجعله مجرد رقعة جغرافية، بل نقطة ارتكاز حيوية لترسيخ مبدأ الدولة الوطنية على حساب فوضى اللادولة والفصائل والميليشيات التي تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي. إن استقرار العراق يعني استقرار المنطقة بأكملها، والعكس صحيح.
لطالما كان العراق تاريخياً معبراً حيوياً يربط الشرق بالغرب. من طريق البخور التاريخي، الذي كان يربط الهند والإمارات العربية المتحدة بحرياً، ومن ثم السعودية براً وصولاً إلى موانئ البحر المتوسط وأوروبا، إلى المشاريع العصرية الواعدة. واليوم، يتصدر المشهد الاقتصادي مشروعان لوجستيان ضخمان يحملان في طياتهما مستقبلاً واعداً للمنطقة:
الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC): يمكن اعتباره الامتداد الحديث لطريق البخور، حيث يربط الهند بحرياً عبر الإمارات العربية المتحدة (ميناء الفجيرة ومشروع السكك الحديدية الوطني)، ثم براً عبر السعودية، وصولاً إلى موانئ البحر المتوسط ومنها إلى أوروبا. هذا الممر يهدف إلى تسهيل التجارة وتدفق الطاقة بسلاسة.
مشروع طريق التنمية: هذا المشروع الحيوي يربط مياه الخليج بحرياً عبر ميناء الفاو الكبير في جنوب العراق، ومن ثم براً عبر الأراضي العراقية وصولاً إلى تركيا ثم أوروبا. يمثل هذا الطريق إضافة نوعية لشبكة النقل العالمية ويسهم في تعزيز تدفق التجارة والنفط.
هذه الطرق الحيوية، التي تعد شرياناً للنمو الاقتصادي والاستقرار العالمي، تواجه تهديداً وجودياً. إن محور المقاومة، والنظرية التوسعية للثورة الإيرانية، وأذرعها المنتشرة، قد أدّت وما زالت تؤدي إلى عرقلة هذه التنمية المنشودة وتقويض الاستقرار في المنطقة. العراق، بصفته البوابة والصمام، هو الأكثر تضرراً من هذه الأجندات التخريبية. فالوجود والهيمنة الإيرانية يقوضان كل هذه الخطط التنموية الحالية والمستقبلية، ويقوضان الأمن والسلام في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
لقد بات جلياً أن الوضع الراهن في العراق، المتمثل بهيمنة الميليشيات وتبعيتها لأجندات خارجية، لا يخدم مصالح الشعب العراقي ولا دول الجوار. هذا الواقع يضع عراقيل أمام أي مبادرات تنموية أو استقرارية في المنطقة، بما في ذلك جهود إعادة الإعمار في سوريا. إن المعضلة الأساسية تكمن في غياب كيان وطني عراقي قادر على استلام زمام الأمور وقيادة البلاد نحو السيادة الحقيقية بعيداً عن التدخلات الإقليمية.
التصعيد الإيراني-الإسرائيلي-الأمريكي: حتمية التغيير في العراق والتسريع الضروري للدعم
التصعيد المستمر بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا من جهة أخرى، يشير بوضوح إلى أن المنطقة تقف على أعتاب مرحلة حاسمة. فبعد الانتهاء من ملف غزة وحركة حماس، تتجه الأنظار نحو ما قد يضعف إيران تماماً، سواء عبر استسلامها لضغوط المجتمع الدولي أو المكابرة والتعنت الذي قد يؤدي إلى سقوط نظامها بكافة أيديولوجياته. هذا السيناريو، الذي تشير إليه كافة التحليلات بأنه بات وشيكاً، يعني حتماً تهاوي النظام العراقي القائم، الذي يعتمد بشكل كلي على الميليشيات والأذرع الإيرانية.
لقد أصبحت هذه اللحظة التاريخية تستدعي عملاً فورياً وحاسماً. مع تسارع وتيرة السياق الحالي، أصبح تسريع هذا الدعم ضرورياً وملحاً. إذا ما تضعضع النفوذ الإيراني، فإن الفراغ الناتج في العراق سيحتم وجود بديل وطني قوي وشرعي قادر على ملء هذا الفراغ وإعادة بناء الدولة.
المجلس الوطني للمعارضة العراقية: البديل الوطني الموثوق والضرورة الحتمية
في خضم هذا المشهد المتسارع، يبرز المجلس الوطني للمعارضة العراقية، بقيادة البروفيسور عبد الناصر الجنابي، كضرورة حتمية، لا كخيار تكتيكي. هذا المجلس، الذي تشير الوقائع الميدانية والتحليلات السياسية إلى أنه يمثل الثقل الأكبر والأكثر شرعية بين أطياف المعارضة الوطنية، هو الكيان الوحيد المؤهل لتولي المسؤولية في هذه المرحلة المفصلية. يتمتع المجلس بتغلغل واسع وعميق في نسيج المجتمع العراقي بجميع شرائحه وطوائفه، من الفاو جنوباً إلى الموصل وزاخو شمالاً، ويعمل بمثابة الخيمة الوطنية الجامعة التي تستوعب تحت مظلتها جميع التوجهات الوطنية الرافضة للهيمنة الإيرانية وفساد العملية السياسية الراهنة.
لقد دأب المجلس الوطني على مدار عقدين من الزمن، ومنذ تأسيسه الرسمي في عام 2014، على توحيد الحس الوطني للعراقيين وتأصيل ولائهم للأمة العراقية، بعيداً عن أي تمييزات طائفية أو عرقية. يضم المجلس تحت لوائه أكثر من 78 كياناً وطنياً فعالاً، مما يؤكد دوره كممثل شرعي وفاعل للمعارضة العراقية الوطنية، والمؤسسة الوحيدة القادرة على تسلم السلطة وتوجيه البلاد نحو السيادة الحقيقية. إن قيادة المجلس، التي آثرت معارضة الخارج بعد أن لمست تفشي الفساد الإداري وهيمنة الميليشيات على القرار الوطني، تملك الخبرة السياسية والرؤية الاستراتيجية اللازمة.
دعوة للدعم الدولي الشامل: آليات الأداء وضمانة الاستقرار والتنمية العالمية
هنا تبرز الأهمية الحاسمة لدور مجلس التعاون الخليجي، وتركيا، وكل الدول المستفيدة من استقرار الشرق الأوسط، خصوصاً أوروبا، التي تعد المتلقي والمستهلك الرئيسي لما يأتي من الشرق، والراغبة في إيصال سلعها إليه بسلاسة. إن تبنيهم لدعم المجلس الوطني للمعارضة العراقية لم يعد خياراً، بل ضرورة استراتيجية قصوى تخدم مصالحهم الأمنية والاقتصادية بشكل مباشر، ويجب أن يتم ذلك على وجه السرعة، فالوقت حاسم. هذا الدعم يجب أن يكون شاملاً ومتعدد الأوجه، مع وضع آليات واضحة لضمان فعاليته وتأثيره المباشر على الأرض وتسريع وتيرته:
الدعم السياسي والدبلوماسي الراسخ:
آلية الأداء: تفعيل حملات دبلوماسية مكثفة في المحافل الدولية (الأمم المتحدة، مجالس الأمن، المنظمات الإقليمية) للاعتراف بالمجلس الوطني للمعارضة العراقية كقوة سياسية رئيسية وممثلاً شرعياً لتطلعات الشعب العراقي. تنظيم لقاءات رفيعة المستوى مع قادة دوليين ومسؤولين كبار لتقديم رؤية المجلس وخططه، وتسريع هذه المساعي الدبلوماسية.
الهدف: شرعنة المجلس دولياً كبديل حقيقي للحكومة الحالية التي فقدت شرعيتها الشعبية بفعل التزوير والتبعية، وتقديم المجلس للعواصم الفاعلة كشريك موثوق يمثل تطلعات الشعب العراقي نحو السيادة والاستقرار.
الدعم المالي لتعزيز الشبكات الداخلية:
آلية الأداء: توفير دعم مالي مباشر وشفاف للمجلس الوطني، يوجه خصيصاً لتعزيز وتقوية شبكات أعضائه وأنصاره داخل العراق. هذا الدعم يشمل تمويل الحملات التوعوية، وتنظيم اللقاءات الجماهيرية السرية والعلنية حيثما أمكن، وتوفير الموارد اللازمة للبنية التحتية التنظيمية التي تضمن الاستعداد الكامل لاستلام سدة الحكم عند اللحظة الحاسمة، مع إعطاء الأولوية للتدفقات المالية السريعة والفعالة.
الهدف: تعزيز قاعدة شعبية وتنظيمية صلبة وفعالة داخل العراق، قادرة على التعبئة وتهيئة الأرضية للانتقال السلمي للسلطة.
الدعم اللوجستي والإعلامي المكثف:
آلية الأداء: توفير منصات إعلامية متطورة (قنوات فضائية، منصات رقمية، وسائل تواصل اجتماعي) تابعة لهذه الدول، تتيح للمجلس إيصال صوته ورؤيته إلى الشعب العراقي والمجتمع الدولي. تنظيم ورش عمل تدريبية لأعضاء المجلس في مجالات الاتصال والإعلام الرقمي. استضافة مؤتمرات ولقاءات دورية موسعة في عواصم داعمة تجمع أطياف المجلس لتوحيد الرؤى وتطوير خطط العمل، مع توفير التسهيلات اللوجستية اللازمة لذلك، بما يضمن أقصى سرعة في إيصال الرسالة وبناء الزخم.
الهدف: فضح ممارسات الميليشيات وفساد الحكومة الحالية، وتعزيز قاعدة دعم شعبية قوية للمجلس في الداخل والخارج.
التنسيق مع القوى الدولية الفاعلة:
آلية الأداء: تشكيل مجموعات عمل مشتركة بين الدول الداعمة لمجلس التعاون الخليجي وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة، للتنسيق الاستراتيجي المباشر، وبوتيرة متسارعة. زيادة الضغط على حكومة الميليشيات في بغداد عبر فرض عقوبات مستهدفة، وتجميد أصول المسؤولين المتورطين في الفساد والتبعية لإيران، وسحب تدريجي للاعتراف الدولي بهم. دعم وتسريع مشروع القرار الأمريكي الرامي إلى تحرير العراق من الهيمنة الإيرانية عبر توفير الغطاء السياسي والدعم الاستخباري.
الهدف: تقويض نفوذ النظام الحالي المدعوم إيرانياً، وإيجاد مسار لتمكين بديل وطني حقيقي قبل فوات الأوان.
دعم تعزيز الدولة والمؤسسات ورؤية العراق المستقبلي:
آلية الأداء: تقديم الخبرات الاستشارية والتقنية للمجلس الوطني في صياغة خطط تفصيلية لتعزيز بناء الدولة العراقية. تنظيم برامج تدريب وتعزيز قدرات في مجالات الحوكمة الرشيدة، إدارة الموارد، مكافحة الفساد، وإصلاح القطاع الأمني لضمان حصر السلاح بيد الجيش الوطني. تسهيل التواصل مع المؤسسات الدولية المانحة لضمان دعم برامج التنمية الاقتصادية المستدامة التي تعود بالنفع على جميع المواطنين، وتضمن توفير الخدمات الأساسية. يلتزم المجلس، بدعم هذه الدول، بتأكيد احترام الجوار وعدم الانحياز لأي محور إقليمي.
الهدف: تعزيز قدرات المجلس الوطني للحكم الفعال والرشيد فور تسلم السلطة، وضمان انتقال سلس ومستقر في أقصر وقت ممكن. كما أن امتلاك المجلس لطبقة تكنوقراط واعية ومتفهمة للبوصلة الجيوسياسية الدولية يعزز من قدرته على التعامل بفعالية مع التحديات والفرص الإقليمية والدولية، ويوفر قيادة حكيمة للعراق المستقبلي.
العراق المستقر: ركيزة الشرق الأوسط الجديد والتنمية العالمية
إن الاستثمار في استقرار العراق، من خلال دعم المجلس الوطني للمعارضة العراقية، هو استثمار في الأمن القومي لدول الخليج وتركيا، واستثمار في مستقبل المنطقة بأسرها، بل وفي استقرار التجارة العالمية وسلاسة تدفق السلع والطاقة إلى أوروبا. فتجاهل الواقع العراقي يعني أن أي جهود لتحقيق الاستقرار والتنمية في سوريا أو غيرها ستظل عرضة للتقويض المستمر من قبل القوى التي تستفيد من الفوضى العراقية. فالعراق بسيادة حرة مستقلة هو ركيزة لأمن واستقرار المنطقة بأكملها، وشرط أساسي لتدفق التجارة والطاقة عبر شرايينها الحيوية بين الشرق والغرب.
إنها لحظة فارقة تستدعي من مجلس التعاون الخليجي، وتركيا، وكل شركاء الاستقرار في العالم، تكاتف الجهود وتسريعها بشكل غير مسبوق لتمكين الممثل الشرعي للشعب العراقي، المجلس الوطني للمعارضة، من استعادة سيادة العراق، وإرساء مبدأ الدولة على مبدأ اللادولة والفصائل والميليشيات.