يونامي في العراق بعثة أممية تحولت إلى مظلة فشل وواجهة تواطؤ
د راهب صالح الخليفاوي
حقوقي وباحث في الشأن العراقي والإيراني
منذ تأسيس بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق يونامي عام 2003 بقرار من مجلس الأمن الدولي جرى تقديمها للعراقيين وللمجتمع الدولي بوصفها أداة دعم وبناء ومرافقة لمرحلة انتقالية يفترض أن تقود إلى دولة قانون ومؤسسات غير أن الوقائع المتراكمة على مدى أكثر من عقدين تكشف أن هذه البعثة لم تواكب معاناة العراقيين بقدر ما واكبت توازنات القوى المتنفذة وتحولت من بعثة مساعدة إلى جزء من منظومة إدارة الأزمة وإدامتها
لم يكن فشل يونامي نتيجة خطأ فردي أو ظرف استثنائي بل نتاج مسار كامل بدأ منذ لحظة التأسيس حين قبلت البعثة العمل في ظل نظام سياسي فرض بالقوة العسكرية وقام على المحاصصة الطائفية والعرقية دون أي اشتراطات حقيقية تتعلق بالعدالة الانتقالية أو محاسبة المسؤولين عن الجرائم أو إعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة
في عهد مارتن كوبلر الذي تولى رئاسة البعثة في مرحلة مفصلية تعاملت يونامي مع تصاعد العنف الطائفي والانتهاكات الواسعة بمنطق التهدئة السياسية لا بمنطق حماية الضحايا فقد طغى الخطاب الدبلوماسي على أي توصيف قانوني واضح للجرائم المرتكبة وجرى التركيز على الحفاظ على العملية السياسية بصيغتها المشوهة مهما كان الثمن الإنساني وهو ما أسهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب ومنح القوى المتنفذة شعورا بالأمان من أي مساءلة دولية
في تلك المرحلة كانت السجون تمتلئ بالأبرياء وكانت الاعتقالات العشوائية والإخفاء القسري تتوسع وكانت موجات التهجير القسري تضرب مدنا بأكملها ومع ذلك لم تتحول هذه الوقائع إلى أولوية أممية حقيقية بل جرى التعامل معها كآثار جانبية لصراع داخلي وهو توصيف يتناقض مع أبسط مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان
ثم جاء عهد يان كوبيش الذي واصل النهج ذاته وإن اختلفت اللغة فقد تكرس خلال تلك المرحلة نموذج البعثة البيروقراطية التي تنتج تقارير دورية لا تسائل أحدا وتوصيات عامة لا تلزم أحدا وتحولت يونامي إلى منصة لإدارة الخطاب لا لمواجهة جوهر الانتهاكات
في تلك الفترة شهد العراق ذروة سيطرة الجماعات المسلحة وتعمق نظام المحاصصة وازداد تغول الفساد المالي والإداري وتوسعت السجون السرية والعلنية ومع ذلك ظل خطاب البعثة حبيس عبارات القلق والدعوة إلى الحوار وكأن ما يجري لا يمس جوهر التزامات العراق الدولية ولا يستدعي موقفا قانونيا صارما
أما في عهد جينين هانس بلاسخارت فقد بلغ التناقض ذروته بين الخطاب والواقع إذ جرى الترويج لدور البعثة كوسيط إصلاحي في وقت كانت فيه الاحتجاجات الشعبية تقمع بالرصاص الحي ويقتل المتظاهرون وتختطف الأصوات الحرة وتغيب العدالة بشكل كامل ورغم ذلك امتنعت البعثة عن تسمية المسؤولين أو الدفع باتجاه آليات مساءلة دولية حقيقية
تحولت يونامي في تلك المرحلة إلى شاهد صامت على واحدة من أخطر مراحل انتهاك الحقوق المدنية والسياسية في العراق حيث قتل واغتيل وخطف ناشطون وصحفيون وامتلأت السجون بشباب الاحتجاج دون محاكمات عادلة ولم يصدر عن البعثة سوى بيانات حذرة لا ترقى إلى مستوى الجريمة ولا إلى مستوى المسؤولية
اليوم ومع تولي محمد عوض الحسان رئاسة البعثة لم يظهر أي تغيير جوهري في النهج بل استمر الخطاب المهادن ذاته وتكرست القطيعة بين تقارير البعثة وواقع العراقيين فجاءت الإحاطة الأخيرة أمام مجلس الأمن في الثاني من كانون الأول ديسمبر 2025 لتقدم صورة مخففة ومجتزأة لواقع مأساوي متجاهلة ملفات التهجير القسري والاختطاف والإخفاء القسري والسجون المكتظة بالأبرياء والقوانين المجحفة التي شرعنت القمع والفساد والمحاصصة وتغييب المواطن
إن هذه الإحاطة لم تكن مجرد سوء تقدير بل تعبيرا عن مسار طويل من إدارة الأزمة بدل مواجهتها وعن ذهنية وظيفية ترى في العراق ملفا أمميا مفتوحا لا قضية شعب يستحق العدالة والكرامة
على امتداد كل هذه السنوات لم تنجح يونامي في أن تكون صوت الضحايا ولم تجعل من عائلات المختطفين والمغيبين محورا لعملها ولم تتبن مطالب العدالة الانتقالية بشكل جدي بل جرى اختزال المواطن العراقي في أرقام وإحصاءات تقرأ في أروقة الأمم المتحدة دون أن تترجم إلى أفعال
إن الغضب الشعبي المتصاعد اليوم ليس موجها ضد فكرة الأمم المتحدة ولا ضد الشرعية الدولية بل ضد أداء بعثة فقدت بوصلتها الأخلاقية والقانونية وتحولت إلى جزء من منظومة تدوير الفشل وتجميل الواقع بدل فضحه
أزمة المعايير الأممية وتدوير النخب مثال ترشيح برهم صالح
ولا يكتمل الحديث عن أزمة يونامي وأدائها دون التوقف عند الخلل الأعمق في منظومة الاختيار والترشيح داخل الأمم المتحدة نفسها حيث باتت المناصب الدولية العليا تدار أحيانا بمنطق التوازنات السياسية لا بمعايير النزاهة والاستقلال والالتزام الصارم بحقوق الإنسان وهو خلل ينعكس مباشرة على مصداقية أي بعثة أممية وعلى جدوى استمرارها
وفي هذا السياق يبرز ما أثير عن ترشيح أو الدفع باسم برهم صالح لمنصب المفوض السامي أو لمواقع أممية رفيعة وهو أمر يطرح أسئلة صريحة حول معنى النزاهة الأممية وكيف تفتح أبواب المواقع الدولية العليا أمام شخصيات كانت جزءا من الطبقة السياسية التي أدارت العراق بعد عام 2003 وتحملت مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن نظام المحاصصة والفساد وانهيار مؤسسات الدولة وتغييب العدالة
إن أي منصب أممي رفيع في مجال حقوق الإنسان يفترض أن يمنح لمن يمتلك سجلا واضحا في الدفاع عن الحقوق والحريات والاستقلال عن شبكات المصالح بينما ترشيح شخصيات سياسية عراقية ارتبطت بمنظومة الحكم بعد الاحتلال يبعث برسالة خطيرة مفادها أن المشاركة في السلطة أو الصمت عن جرائمها أو التكيف مع فسادها لا يمنع من المكافأة الدولية لاحقا
كما أن السجل السابق لأي مرشح لا ينبغي أن يدار بخطاب علاقات عامة بل يجب أن يخضع لتدقيق حقيقي فوجود تاريخ سياسي حزبي وربما مسلح قبل عام 2003 بما في ذلك المشاركة كمقاتل ضمن بيشمركة السليمانية يثير تساؤلا جوهريا حول مفهوم الحياد المفترض في المناصب الأممية العليا فالأمم المتحدة حين تتحدث عن حقوق الإنسان لا تحتاج إلى رموز صراع داخلي ولا إلى شخصيات تشكلت داخل توازنات الحرب والسلطة بل تحتاج إلى شخصيات مدنية مستقلة لم تستثمر داخل مشاريع المحاصصة ولم تتورط في إعادة إنتاجها
الأخطر أن مثل هذا الترشيح إن صح أو حتى إن طرح كفكرة يوجه طعنة معنوية لعائلات المختطفين والمغيبين قسرا ولضحايا التهجير القسري وللشباب الذين زجوا في السجون دون محاكمة ولضحايا التعذيب والقتل خارج القانون لأن الرسالة تصبح واضحة أن الضحية لا ترى وأن الجلاد لا يحاسب وأن من مر على السلطة يمكن أن يعاد تدويره دوليا تحت عناوين جديدة بينما تبقى العدالة مؤجلة إلى أجل غير مسمى
إن أزمة يونامي ليست أزمة أداء ميداني فقط بل هي انعكاس لأزمة أعمق داخل المنظومة الأممية نفسها حيث يجري أحيانا تدوير النخب السياسية وإعادة تسويقها دوليا بدل بناء شرعية أخلاقية قائمة على الاستقلال والشفافية والمساءلة ومن دون مراجعة صارمة لمعايير الترشيح والتحقق والنزاهة ستبقى الأمم المتحدة عرضة للتسييس وسيبقى خطابها الحقوقي هشا أمام معاناة الشعوب
إن إعادة تقييم دور يونامي منذ تأسيسها مرورا بكل رؤسائها لم تعد خيارا بل ضرورة قانونية وأخلاقية وسياسية فالعراق لا يحتاج إلى بعثة تدير الانهيار ولا إلى خطابات دبلوماسية تساوي بين الجلاد والضحية بل يحتاج إلى موقف دولي صريح ينحاز إلى حقوق الإنسان ويسمي الانتهاكات بأسمائها ويكسر دائرة الإفلات من العقاب
وسيظل أي حديث عن مستقبل العراق فارغا ما لم يفتح هذا الملف بكل شجاعة وما لم تراجع تجربة يونامي باعتبارها تجربة فاشلة في جوهرها لا تحتاج إلى تجميل بل إلى مساءلة شاملة باسم ملايين العراقيين الذين دفعوا ثمن هذا الصمت الدولي الطويل