تهديدات الأقطاب وملامح الحرب الباردة
بـقلـم د. آلاء المـصطـاف |
لقد أثارت المـقابلة التي بثـتها قـناة (أي بي سي نيوز) الأمريكية مع الرئيـس الأمريكي جو بايدن جـدلاً واسعاً بما اطلقهٌ من تهـديداتٍ غير مسـؤولةٍ تِجـاه الرئيـسٌ الروسي فلاديـمـير بوتيـن، جاء ذلكَ فـي معـرض سـؤالٍ وجههٌ الإعـلامي الـذي أجرى المقـابلة في محاولةِ معرفةِ رأيهِ ما إذا كانَ الرئيـس بوتيـن قـاتل، حـيث لمْ يكـتفِ بالإجابةِ بالإيجـابِ فقط، بل وتطورَ حـديثهُ الى قولهِ بأنهُ سـيدفعُ الثمـنْ وسَـوفَ تـَرونَ ذلـك قـريباً. تهـديداتٌ علنيةٌ أٌطلـقتْ عـلى لسانِ رئيـسٍ بـعدَ سـتينَ يـوماً مـن إسـتلامهِ الإدارةِ في أميـركا. الغـريب بالأمـرِ أن جـو بايدن سَـبقَ أنْ أوضحَ خـلالَ فتـرتهِ الإنتخـابيةِ أنهُ سـوفَ يُجـددُ العـَملَ بإتفـاقـيةِ سـتارت-3، فبعـد تنصـيبهِ رئيـساً فـي العـشرينَ مـن يـناير الماضـي بـادرَ على الفورِ بٱلإتصالِ بٱلرئيـس اؐلروسي في الخامسِ واؐلعشرينِ مـن الشهـر ذاتهُ، وفـي حـديثٍ مطـولٍ جـرى بينهما إستعـرضا خلالهُ الكـثير مـنَ الامـورِ التـي كانـت مَحـَطَ نـِقـاشٍ بِضـِمـنها مـوضوعُ الجـهودُ الروسـية للـتَدخـلِ فـي الإنتـخـاباتِ الأمـريكيةِ لـصالح ٱلرئيــس السـابقِ دونـالد تـرامب وإختراق شبكات الإنترنت في أميركا واعقال عدد من مناصري المعرض الروسي ألكسي نافالني. ملخص المكالمة أنه تمَّ الإتفاقُ بين الرئيـسـين عـلى تجـديدِ العـملِ بٱلإتفـاقـيةِ التي أُطـلِقَ عليـها إسمُ ستارت الجديدة ( New Start ) والتي تـمثلُ معاهدة حفظ سلام بيـن البلـدين كـما تمَّ الإتـفاقُ عـلى أن تـكونَ التـصـريحات التي ستصدرُ مـِنَ الجـانب الأمريكي للعـلن مغايرةُ لما هو بالحقيقة وفقاً لِـما أوردتهُ صحيفـة الغـارديان. ومِـنَ الجـديرِ بالذكـرِ أن الرئيـس ترامب سَـبقَ وأعلـنَ اثـناءَ فتـرةِ حمـلتهُ الإنتخـابيةِ عن عدمَ نيـتهِ العودةَ الى إتفاقية ستارت. فما الذي دعـا جـو بايدن الـى إطـلاقِ هـذه التهـديدات؟ إذ أن المعروف في أي مقـابلةٍ متـلفزةٍ أو تصـريحٍ صحفيٍ يَصدرُ من رئيـس دولةٍ بحجمِ الولاياتِ المتـحدةِ لا يـمكنْ أنْ يـكونَ إرتـجالياً، بـل حـتماً سـبقَ مـعرفةِ مـا سـيتم طرحه من اسئلة مسبقاً، بمعنى ان كلام الرئيس جو بايدن كان يحمل رسالة تصعيدٍ شديدة اللهجة يراد ايصالها الى الطرف الروسي.
لنتأمل رد الرئيس الروسي الذي جاء هادئاً وأنيقاً مع قدرٍ وافٍ من الإسـتخفافِ المهينْ، فقـول الرئيـس بوتين يمـكنُ أن نُفـسِرهُ بِلهجـَتِنا العامـيةِ المـتداولةِ ” الله يشفي” أو ” أنتَ رجلُ كبير ولا اريدُ الردَ عليكَ” جاءَ فـي صَمـيم الهدفِ، أن البيت الأبيض يديرهُ رجُل خَرِفٌ لا يعْي ما يقول وقوهذا مـا أوضَحهُ الرد الأمريكي الذي بَثـتـه القنوات التلفزيونية حولَ مشهد سقوط بايدن المتكرر على سلم الطائرة مما أيد ما ذهب اليه الرئيس بوتيـن فـي رده بشـأنِ أهـليةِ الرئيـس بايدن. أما تبرير البيت الابيض على لسان الناطقة باسمه والذي يثير للضحك حتى البكاء، بدا على شاكلةِ مـَنْ لـمْ يَعـْتدْ الرقصَ فعَللَّ الفشلْ بإعوجاجِ الارضْ. ولكن دعنا نذهب بإسـتفساراتنا بعيداً هـل فعـلاً تلقـى الجانـب الروسـي هـذهِ التهـديديات بعـدم مبـالاةٍ تذكرْ؟ هذه التهـديدات لـم تكـن موجـهةً الـى شخـصِ الرئيـسِ بـل الى قـطـب اليـسار فـي العـالمِ، روسـيا بقـوتِها العسـكريةٍ الهائـلة ومـكانتِها الـدولية التي توجـب على الولايات المتحدة وغيـرها من القـوى في العالم التحسبَ بأيِ كلمـةٍ أو تصـريح قـد يصدرُ من أي جـهة تجـاهها. في الحـقيقـة ان الجانـب الروسـي لـم يـتعامـل مـع الأمـر بـلامـبـالاة أو عـدمِ إكـتراث كـما بـدا على لـسانِ الرئيـس بوتيـن، فـقـد تـمَّ إسـتدعاءُ السـفير الروسـي في الولايـات المتـحدة، فـي إجـراءٍ دبلوماسـيٍ إسـتثـنـائيٍ مـتـقدمٍ لا يسـبقه سـوى إجـراء سـحْبِ السـفير وقـطـع العـلاقات الدبـلوماسـية بيـن البلديـن، كـما شهدنا ردود الافـعال الشـديدةِ اللهجـةِ التي خرجت على لسان العديد من رجـالات الكـريمـلين و الخـارجيـة الروسـيـة.
لنعدْ الـى الاسـبابِ التي دعـت الرئيـس الامـريكي جـو بايدن الـى إطـلاق تصريحـاته تلك. فعـلى ما يبـدو أنَّ هـوسـهُ في مـخالفـةِ سـلفهِ دونالد ترامب هـو مـن جـعله يسـتعجل الأمـور بـتجـديد معـاهـدةِ سـتارت-3 وبشروط موسكو كما أوردته محطة RT الروسـية. فـتـصريحاته تـدل علـى تـصعيد كبـير ظـهر واضحاً جـلياً فـي قول الناطـقة بإسمِ البيتِ الابيضْ في أن روسـيـا سـوف تـواجه عـقـوبات إقـتـصاديةٍ فـي غـضـون الأسـابيع القـادمـة. فـلماذا وصـف الرئيـس بايـدن نظيـره الرئيـس بوتيـن بـطريقـةٍ تـدلُ علـى فـقـدان الـذكاءُ والفـِطْنـَةُ والـلَباقـةُ الدبلوماسـية؟ فـحسـب نيـويورك تايمـزوبـعـض الصـحف الأميـركية أن الوصـف جـاء بـنـاءاً علـى قـرارمـحكـمة بـريـطانيـة بـإدانـةِ الرئيـس بوتيـن بـتـصفية احـد عمـلاء المـخابـرات الروسـية فـي بريـطانـيا، ومـحاولة تسـمـيم المعـارض الروسـي ألكسـي نـافـالنـي ومـا الى ذلـك مـن التـبريـرات لكنـي هـنا اذهـب فتي التـحليل الى ابعـد مـن ذلـك بــكثير، وفي مـعرض هـذه المقـالة سـوف ادرج مـا اسـتعطت قـراءتـهُ ممـا ظـهر فـي التـصريحات ومـا نشـرته الصـحفُ و وكـالات الأنـبـاء العالميـة.
لقد أدركـتْ الولايات المتـحدة جـيداً خـطورة القـوة الناعمـة التـي اسـتخدمتها موسـكو فـي إدارتـها للأزمـة السـورية كمـا أنَّ سياسـة الاسـتـهـتار والاسـتخفاف بالقـوى الاقـليـمـية الفـاعـلة بالشـرق الأوسـط قـد افـقـدها حـلفـائها الـى حـدٍ مـا، ويـبـدو ان الجـولـة الخـليجـيـة التـي قـام بـها وزيـر الخـارجيـة الروسـي سـيرغـي لافـروف الى منـطقة الخـليج العـربي والتواصـل الحـثيث الخـليجـي الروسـي قـد افـقـدها رشـدها فضـلاً عـن خـسـاراتٍ جسـيمة بـما يتـعلـق بالمـصالح الامـريكية فـي العـالـم بشـكلٍ عـام وكما يلي:
- مـشـروع السـيـل الشـمـالـي، خـط سـير الغـاز الروسـي الـى أوروبـا وتـحـديـداً المـانيـا وفـشـل الجـهود الأمـريكية المـحمومة فـي افشـالهِ، حـيث اعـلنتْ المـستشـارة الألمـانية أنـجـيلا مـيـركل عـزمها بـذل الجـهـود لأجـل إنـجاح المشـروع وجـاء ذلـك بمـعـرض اجـابـتها عـلى سـؤال وجـه لها من قـبل صحـيفة Deutchewelle (DW) الألمـانية وفـق ما ذكـره مـوقع روسـيا اليـوم.
- ظـهور حـركات انـفـصاليـة جـديـدة فـي أوكـرانـيا وهـنا مربـط الفـرس حـسب مـا يقـال عـندنـا نحـن العـرب وكـلنا يـتـذكر تـسـريبات البـريد الالكتـرونـي التـي عـثر عليـها بـكومبيـوتـر هـانتـر بـايدن والفضائح التي تتعلق بالرشـى التي تـلقاهـا مـِنَ شركاءه في أوكرانا والعلاقة التي تربطه بالزعماء الاوكرانيين.
- روسـيا تحـشد دبـاباتهـا وجنودهـا بمـا يعـادل 3 اضـعـاف حجمهـا المعـتاد علـى الحـدود مع أوكرانيـا ممـا اثـار اسـتنفاراً أمـنيـا وعسـكريـا ً فـي دونيسـتك.
- قـيام البحريـة الروسـيـة بـإحتـجاز ثـلاث مراكـب عسـكريـة أوكـرانيـة.
- الأهـم علـى الاطـلاق هـو موضـوع شـبه جـزيرة القـرم، والمصـادف أنَّ هـذه التهـديدات قـد تزامـنت مـع ذكرى الإحـتفـالات السـنويـة لـضـم شـبه جـزيرة القـرم الى روسـيا. حـسب مـا أوردت وكالـة Deutchewelle (DW) ووكالـة Intel Sky أن روسـيا قـد انشـأت علـى الجـزيرة قاعـدة عسكريـة كبيـرة ونشـرت عليـها نـوع من الصواريـخ الحـديثـة كـنوع من التهـديد الواضـح لأوكرانـيـا.
- لـو ذهبـنا لـبرهة خـارج الصنـدوق لنـفكـر مـليـاً هـنـاك سـندرك تمـامـاً أهـميـة الربـط بيـن مـكالمتـي الهـاتف التـي ادراهـا الرئيـس بايـدن مـع كـلٍ من الرئيـس بوتيـن و العـاهل السـعودي المـلك سـلمان بـن عبـد العـزيـز، والـرد السـعودي فـي تـغييـر دفـة التحـالفـات نحـو الشـرق الروسـي بـعد الإسـتهتـار الواضـح مـن قبـل الإدارة الأمـريكية ومـحاوتـها إهـانـةِ َوَليِّ الـعَـهـدْ والتدخـل فـي شـؤونِ المـملكـة.
- لا ننسـى التحـالف الروسـي التـركي القـطري الذي يـثير الُرعـب لـدى الإدارة الامـريكية.
هـكـذا يبـدو واضـحاً أمـام القـاصي والدانـي أن امـيركا فـي ظلِّ قـيادتِها الديمـوقراطيـةِ تفـقـد حـلفائُها وأصدقائُها الواحـد تـلوَ الآخـر، فضـلاً عـن تهـديداتـها الرعـناء التـي يصـلحُ أنْ نـطلـقُ علـيها عـودُ ثـِقـابُ إشـعالُ فـَتيـلُ الحـربِ الباردةِ بين المعسكرينِ الشرقيُ والغربيُ من جديدٍ.
ماذا عن الرد الروسي؟
الإسـتخفـافُ الأَنـيـق هـو العـنوانُ المـناسبُ لـردِ الرئيـس بوتيـن، لا أعــتقـد أنَّ هـذا المـُحارب اليـقضْ سـوفَ يـكتفـي بـتلـك الكلمـات فـهو يُمثـِلُ الدُّبُ العـنـيـدُ الـذي تـزداد شـعبيتـهُ وثـقةُ مـواطنيهِ بهِ بـِحسـب مـقالةٍ للدبلومـاسي الروسـي الـذي يـشغـلُ مَـنصـِبَ مـستشـار لــدى وزارتي الـدفـاع والخـارجيـة الروسيـة رامـي الشاعـر، والـذي يعـتبر هـمزة الوصـل بيـن موسـكو ونظـام الأسـد ومهـندس الحـل بالنـسبةِ للمسألـةِ السـورية، تلـك المقالـةِ التي نشـرت علـى صـفحـاتِ صحيفةِ (زافترا) الروسيـة، حيث وصف ثقـةِ الشـعـب الروسـي بأنـها قد بـلغـت درجـة من المستحـيل علـى الرئيـسِ الأمـريكي أنْ يـَحْصـُلَ عـلى مثـيلهـا بيـن مواطـني الولايـات المتـحدة.
من المعروف لدى أغلبيـة متـابعي الشـأن السياسـي أنَّ الولايـات المتحـدة ذاتُ الطـابـع الرأسمـالي دائمـاً مـا تسـتعرضُ قـوة اقتـصادهـا ورصـانة عمـلتهـا عـلى العكـس مـن روسيـا التـي دأبـت أَنْ تسـتعرضَ قـواتهـا العسـكرية وجـحافـل جـنودهـا فـي مـعظـم منـاسـباتهـا الوطـنية ممـا يـدلُ عـلى أَنَّ لـِجـيشهـا رمزيـةً عظـيمةً أو بالأحـرى جـيشهـا هـو رمـز هيـبتهـا وقـوتهـا. وهـنا جـاء الـرد الروسـي المـزلـزل الـذي قـلب العـالـم رأسـاً عـلى عـَقـِبْ حـينمـا أُعـلنَ عـن أخـتفـاءِ الغـواصةِ الروسيـةِ في منطقةٍ ضِمـنً عـمليـاتِ حـلفِ النـاتـو وإشـتراكِ كـلٍ مـن القـواتِ الأمـريكيـة والإسـرائيـليـة باؐلـبـحـث عـنها إثْرَ فـقدانِ الـتواصُلِ معهـا، ليـخرُجَ المُحـاربُ ويعلنُ لـلمـلأ أنـهُ يُـثمِـنُ الـقلـقَ الـذي شـعـرَ بـه الأصـدقـاء تـجـاه إخـتـفاء الغـواصةِ ويـطـمئِنهـم بأنَّ الغـواصةَ عـلى تواصـلٍ مـع وزارة الدفـاع الروسيـة وأَنَّ القـوات الروسيـة كانـت تجـري اخـتبـاراً لقـدرةِ الغـواصة عتلى الإختـفـاء وقـد أُنجـِزَ الإخـتبـار بـنجـاحٍ. ويـذكرُ أَنَّ هـذه الغـواصـةُ قـد دَخـلـتِ الخـدمـة فـي الجـيش الروسـي سـنة 2014 وأَنَّ هـنـاكَ ثـلاثُ غواصـاتٍ جـديـدةٍ بـتـقنيـاتٍ عـاليـةٍ سـَـوفَ تـَدخـلُ الخـدمـةَ هـذا العـام.
ممـا سـبقَ نـسـتنتـجُ أَنَّ أميـركا التـي طـالمـا تبـجـحـتْ بأنـهـا دولـةُ المـؤسـساتِ وأَنَّ سـياسـتهـا تُرسـم لـِمـائـة عـامٍ ولا يـمـكنُ أَنْ يـكـتنفـها خطـأ مـا، تـلك السـياسـةُ المـقـيتـة التـي أَدتْ الـى تـمزيـق الشـرقِ الأوسـطِ وتـفتـيتـهُ عِـبـْرَ إثـارةِ النـعـراتِ الديـنيـةِ والطـائفيـةِ وخـلـقِ الأعـداءِ الوهـميـيـنَ مـِنَ الإرهـابيـيـنَ لـتستـطيـعَ مِـنْ خـِلالـَهـا ممـارسـةُ دورِ قـاطِـعْ الطَـريــقِ وفـَرضِ الأتــاوات عـبرَ إبتـزاز الحـكومـات، هـذهِ السـياسـة قـد افـقـدتهـا حـلفائهـا وأولهـا وليـس بآخـِرهـا خـروج السـعوديـة مـِن عبـائـتـها ومـخالـفتهـا لهـا بـعد مـحاولتهـا تـحجيـم دورِ ولـي عهـدهـا وهـا نـحـن نـراهـا اليـوم تـخرج عـن حصـافتهـا وإتـزانهـا الدبلوماسـي بتـصريحـاتٍ لا تـنـّمُ إلا عن غـبـاءٍ سيـاسـيٍ مـطبـقٍ ربمـا سيـكون فـتيـلٌ لِحـربٍ لا يـُحـمـَدُ عـُقـبـاهـا.