زافترا: سوريون يراهنون على “احتلال الناتو” لروسيا لحل أزمة بلادهم
رامي الشاعر
في ندوة بعنوان “سورية إلى أين؟” ، استضافتها العاصمة القطرية واستمرت يومين، طالب بعض المعارضين البارزين بـ “إسقاط النظام كحل أوحد لتحقيق عملية انتقالية ذات مصداقية”.
كذلك صرح نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، إيثان غولدريتش، بأن بلاده لن تطبّع العلاقات مع نظام الأسد في سوريا، متهماً إياه بإعاقة العملية السياسية في سوريا، والتعنت وعرقلة مسار اللجنة الدستورية السورية في جنيف.
وأكّد المسؤول الأمريكي أن واشنطن لن تشجّع التطبيع مع نظام الأسد، إلا أنه وفي الوقت نفسه قال إنها “متمسّكة بالقرار الأممي 2254، وتعمل مع الشركاء الأوروبيين والعرب لتطبيق القرار”.
أنها حلقة مفرغة شيطانية يقع ضحيتها الشعب السوري، ويدفع ثمن عناد دولي وإقليمي وسوري مقيت. فواشنطن، التي تعترف بقرار مجلس الأمن رقم 2254، لا تعترف بـ “نظام الأسد”، الذي يعدّ وفقاً لنص القرار الممثل الشرعي الوحيد الحالي، وفقاً للوضع الراهن Status quo، للشعب السوري أمام هيئة الأمم المتحدة، التابع لها مجلس الأمن، الذي تجلس الولايات المتحدة الأمريكية عضواً دائماً فيه، وشاركت في إصدار والموافقة على القرار. في الوقت نفسه، وهنا قد أتفق مع جزء مما قيل بشأن جنيف، تابعنا كيف تعنت وفد دمشق في جلسات اللجنة الدستورية المصغرة لصياغة دستور سوريا الجديد.
الولايات المتحدة من جانبها، تضغط على “النظام السوري” من خلال فرض عقوبات “قانون قيصر”، الذي تمسّ تداعياته الحياة اليومية لملايين السوريين، في محاولة لكسر النظام، وتركيعه، وربما إسقاطه، بعد أحد عشر عاماً من الدمار والحرب الأهلية، دون اعتبار لأن دائرة العنف المقبلة سوف تذهب بالأخضر واليابس، ولن تتوقف عند حدود الدولة السورية، وقد تمتد إلى براميل بارود أخرى كثيرة منتشرة في المنطقة والعالم. القيادة في دمشق، تعتقد أن وضعها الحالي مستدام، وقابل للاستمرار للأبد، وتستخدم نفس أساليب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتعلن نتائج انتخابات تحوم حول الأغلبية الكاسحة والأغلبية العظمى، في وقت يشاهد فيه المواطنون بأم أعينهم مشاهد الحرب والدمار والفقر والجوع والمرض، ولا يحتاجون لأرقام صناديق الاقتراع لتؤكد لهم على ما يعرفونه، ويعرفه الجميع حق المعرفة. المعارضة لا زالت تدعو إلى شعار “إسقاط النظام”، والنظام يدعو إلى شعار “الأسد أو لا أحد”، ويقف الشعب السوري بينهما عاجزاً عن الحرب، عاجزاً عن المعارضة، عن المقاومة، عن التأييد، عن أي شيء سوى رغبة البقاء على قيد الحياة، والبحث اليومي المضني عن مازوت للتدفئة، أو لقمة لطفل جائع، أو علاج لمريض قعيد.
يجلس هؤلاء وأولئك على مقاعدهم الوثيرة، وينامون ملء جفونهم على وسائد مخملية في فنادق ذات نجوم كثيرة (يعلم الله كيف!) ، وتهتف حناجرهم بأعلى الأصوات لـ “إسقاط النظام”، مستخدمين بذلك مواطنين تختلف درجة إخلاصهم وإيمانهم بقضيتهم في الداخل، تخدعهم الشعارات البراقة، ويظنّون أن نفس الخطوات، والأساليب، والإجراءات، التي تمت على مدار 11 عاماً، يمكن أن تؤدي اليوم إلى نتائج مختلفة! كيف؟ لا أدري.
ربما كانت المعضلة الأساسية التي نقف أمامها اليوم هي عراقة وشجاعة وأصالة الشعب السوري بكل مكوناته، وأطيافه، وعلى جانبي الصراع، فهو شعب تمكّن عبر تاريخ طويل من مراكمة نضالات وخبرات وتجارب وثقافات تجاوزت أزمات لا تقل مرارة أو قسوة عن أزمته الراهنة. أقول إن الشعب على جانبي الصراع، آمن بقضاياه وذهب ليدافع عنها بحياته، يدفعها بسخاء، ويروي دم أرضه دفاعاً عن قضيته التي يظن كل طرف من الأطراف بصوابها وعدالتها وحقها المبين. لهذا دافع الطرفان، وقاتلا بعضهما بكل حمية وحماس وشجاعة.
إلا أن الوضع الآن يحتاج شجاعة لا تقل عمّا تحلّى بها هذا الشعب الأبيّ، حينما أمسك بالمدفع والقنبلة. فالشجاعة اليوم لابد وأن يكون على رأس أولوياتهم رفع المعاناة عن الشعب المسكين، عن الأطفال والنساء والعجائز والمدنيين، ممن لا ذنب لهم، ولا ناقة لهم ولا جمل. لابد وأن يكون على رأس هذه الأولويات الوقف الفوري لمختلف أشكال القهر والقمع والتهجير والفقر والجوع والبرد والمرض. الأولوية القصوى، في وجهة نظر أي معارضة نبيلة شريفة لا يجعل لأي صراعات جانبية أي معنى أو مكان أو هدف، سوى الحصول على مكاسب سياسية أو حزبية أو شخصية ضيقة، على حساب دم الشعب المكلوم.
إن ما دار في ندوة الدوحة من عودة لاستخدام شعارات قديمة، تعيد إلى الأذهان حالات الاستقواء بالخارج، والالتحاف بالقوى الغربية، بل ودعوتها لممارسة مزيد من الضغوط على “النظام السوري”، وكأن ذلك “المزيد من الضغوط” لا يعني مزيداً من المعاناة، ومزيداً من المآسي، بل ومزيداً من الوفيات والأمراض والأوبئة وانهيار البنى التحتية للملايين من أبناء الوطن.
فهل عادت المعارضة لفكرة “إفناء الآخر”، التي أثبتت فشلها، وهل عادت أحلام تدمير الدولة السورية، والتخلص من “مؤيدي النظام”، لبناء “دولة ديمقراطية جديدة” على أنقاض وأشلاء مواطنين سوريين “آخرين”، يختلفون في آرائهم ورؤاهم السياسية؟
وهل هذا هو رد فعل على فكرة القيادة في دمشق أنها “انتصرت”، وأنها “عادت لتبقى للأبد”، دون إدراك واقعي لحقيقة المشهد، الذي تسيطر فيه دمشق على غالبية، وليس كل التراب السوري، وحتى تلك الغالبية تعاني من مشكلات إدارية بنيوية وهيكلية تحتاج فوراً للمساعدة، ولا ولن تتمكن سوريا من النهوض بأعباء إعادة الإعمار دون العودة إلى المجتمع الدولي، الذي يشترط للعودة تنفيذ القرار الأممي 2254. فهل يعي ذلك أولي الأمر؟
إن كل ما استمعت إليه في الندوة من مقترحات “إنهاء عمل اللجنة الدستورية، والهجوم على مسار أستانا وجنيف معاً في آن واحد، والغياب شبه الكامل للحديث عن القرار 2254، والحديث عن حل إسقاط النظام، والتقييم الإيجابي لدول الولايات المتحدة الأمريكية” وغيرها من الرؤيا الأحادية، ليست سوى أفكار مرفهّة، لا تختلط بالطين السوري المبتل بدماء الشهداء.
لقد وصلت درجة العبث ببعض السوريين المتواجدين في الدوحة إلى التعاطف مع مداخلة مندوب البيت الأبيض والرهان على احتلال “الناتو” لروسيا، ثم بعدها تحل أزمة سوريا والإطاحة بالنظام، وتصفية 20% من الشعب السوري! فأي عقل هذا؟
وهل يعقل أن يكون “زعيم” هذه المعارضة صاحب تاريخ طويل من الترقيات والمناصب داخل “نظام الأسد” الذي انشق عليه، ويريد الإطاحة به. والسؤال الذي يطرح نفسه حقيقة: ألم يكن رئيس مجلس الوزراء السابق ضالعاً هو الآخر في ذات “الجرائم والممارسات”، بحسب تعبيره وتصريحاته أثناء اجتماع الدوحة، من خلال المناصب الحساسة التي تقلّدها يوماً في الدولة السورية؟
وهل كان رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عن هذه الشخصية بالتحديد، عربون صداقة ومحبة، لمن يؤدون فروض الطاعة والولاء للغرب، ويمارسون أدواراً بعينها، في الوقت الذي تفرض فيها الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات جماعية على الشعب السوري، بغرض التجويع والتركيع وكسر الإرادة؟!
لقد تابع العالم على مدار أيام عملية إنقاذ للطفل “ريان” في المغرب، لم تكلل بالنجاح مع الأسف الشديد. عملية جاءت وكأنما لتلقننا جميعاً درساً بليغاً في الإنسانية، يجب أن يذكّرنا بالجوعى والمرضى والمشرّدين والمفقودين والنازحين واللاجئين من الأطفال في سوريا، واليمن، وقبلها غزة، وبعدها يعلم الله في أي مكان من منطقتنا المنكوبة، التي سيعجز كثير من أطفالها لا عن الذهاب إلى المدرسة أو اللعب في الساحة، وإنما عن الأكل والشرب أو حتى التنفّس، ليواجهوا مصيراً يشبه أو أفظع من مصير “ريّان”.
أطفال ضعفاء، عاجزون، يموتون أمام أعيننا موتاً بطيئاً، دون أن تهتز شوارب القادة والزعماء الملهمين المؤزرين، ومؤيديهم ومعارضيهم على حد سواء، فيشعروا، ولو للحظة واحدة، أن خلافاتهم، وصراعاتهم، وأسلحتهم، وحروبهم، تقتل في كل لحظة ألف “ريّان”، وتحجب المستقبل عن مليون “ريّان” آخر، لا ذنب لهم سوى مولدهم في هذه المنطقة البائسة من العالم.
إن المعارضة الحقيقية والوطنية هي معارضة حريصة على الشعب قبل “النظام”، وعلى البشر قبل الدولة، تسعى قدر الإمكان إلى تغيير نهج الممسكين بزمام الحكم، باستخدام جميع الإمكانيات المتاحة، من خلال المؤسسات الموجودة فعلياً، والتي يخدم فيها مواطنون سوريون، فيسعون لإعادة الهيكلة، وتحسين الأداء، والوظيفية، لخدمة المواطن السيد على أرضه، ولا يحدث ذلك، تحت أي ظرف من الظروف، بتدخل أجنبي، أو بحصار جماعي، بل ولا يحدث دون حوار سوري سوري، والابتعاد عن المطالبات التي تسعى لتدمير الدولة السورية ومؤسساتها. فالدولة رمز السيادة، والوطن باق، ونحن زائلون.