العراق: ما بعد انتخاب الرئيس د. هدى النعيمي / مستشار الاسلام السياسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات..

21 أكتوبر 2022

العراق: ما بعد انتخاب الرئيس

د. هدى النعيمي

 
د. هدى النعيمي
مستشار الإسلام السياسي

تمهيد

واجه العراق خلال الشهور الماضية واحدة من أسوأ الأزمات السياسية التي شهدتها البلاد بعد عام 2003. فبعد مرور عام على الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر 2021، تم انتخاب رئيس للجمهورية، ليقوم بدوره في اختيار المرشح لرئاسة الوزراء الذي قدمته الكتلة الأكبر ممثلة بالإطار التنسيقي. ولا شك أن ما يمكن أن نسميه “الانتصار الإطاري” جاء بسبب الانسحاب (غير المبرر) للكتلة الصدرية من العملية السياسية، ما فسح المجال أمام الجهود الإطارية لعقد الجلسة البرلمانية والمضي قدماً في عملية انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة.

وتحاول هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على ما آلت إليه الأوضاع العراقية وما رافقها من تداعيات أفضت إلى انقسام شيعي عرقل تشكيل الحكومة على مدار سنة، وجر إلى أحداث عنف كادت أن تذهب بالبلاد نحو حرب أهلية، بالإضافة إلى محاولة استشراف ما ستكون عليه العملية السياسية بعد الانسحاب الصّدري.

الإشكالية:

تعكس الأزمة السياسية التي أعقبت الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر 2021 صراعاً شيعياً-شيعياً على السلطة، تزايدت حدته بعد حصول التيار الصّدري على 73 مقعداً من أصل 329 مقعداً، ودعوته التخلي عن تشكيل حكومة توافقية جرى الاتفاق عليها كعرف منذ انتخابات عام 2005 بين الأحزاب السياسية ذات المرجعيات الطائفية والإثنية، لصالح تشكيل حكومة أغلبية وطنية مع من يتحالف معه.

وما كان من الأحزاب التي شكّلت الإطار التنسيقي، وتلقى دعماً إيرانياً إلا أن رفضت نتائج الانتخابات البرلمانية، مدعية حدوث تزوير[1]، ومؤكدة مبدأ التوافقية الذي تشكلت بموجبه العملية السياسية في العراق أعقاب سقوط نظام البعث السابق. وقد بلغ الخلاف أوجه مع مطالبة التيار الصّدري منذ أكثر من شهرين بحل البرلمان، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. وهو أمر لقي رفضاً من أحزاب الإطار التنسيقي وكتله، التي أصرت على انتخاب رئيس جديد وتشكيل الحكومة، قبل أي حديث عن الانتخابات المبكرة. والإطار التنسيقي؛ ائتلاف سياسي مكون من قوى شيعية، تشكل في أكتوبر 2021، بهدف تنسيق مواقف القوى الشيعية الرئيسية الخمس في البرلمان “سائرون، والنصر، ودولة القانون، والحكمة، والفتح” والرافضة للنتائج الأولية للانتخابات البرلمانية المبكرة، مطالباً بإعادة فرزها يدوياً، بسبب التراجع الكبير لعدد مقاعدها مقارنة بالانتخابات السابقة[2].

الصّدر يحقق انتصاراً انتخابياً

كان الصّدر أكبر الفائزين في انتخابات عام 2021؛ لذا فقد سعى إلى بناء تحالف عراقي يضم ممثلي السُّنة والأكراد، باسم “إنقاذ الوطن”، وترشيح جعفر الصّدر لرئاسة الحكومة، وريبر أحمد لرئاسة الجمهورية[3]. وتمكن من تأمين أغلبية برلمانية. معلناً أن خصمه – رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، لن يكون أبداً جزءاً من ائتلافه الحاكم.

ولعل هذه الخطوة، تعني في أحد وجوهها استبعاد أكبر حزب موالٍ لإيران من العملية السياسية، وفقدان طهران الأغلبية المؤيدة لها في السلطة التشريعية. ما يؤدي إلى تراجع هيمنتها على البرلمان الذي من شأنه عرقلة تنفيذ برامجها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والأمنية في البلاد، وأن ما تلقاه من دعم الميليشيات الموالية لها والتي يبلغ قوامها 150 ألف مقاتل[4] لن يغني عن الشرعية الديمقراطية التي تتعلق بالرقابة على عمل السلطة التنفيذية، وعملية اتخاذ القرارات التي تتعلّق بالسياسات المختلفة.

وفي السياق نفسه، فإن مشروع الأغلبية السياسية الذي طرحه الصّدر ربما يمثل تهديداً للأولويات الإيرانية في العراق، ليأتي قرار المحكمة الاتحادية العليا حول النصاب القانوني المطلوب لعدد أعضاء مجلس النواب الحاضرين خلال جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في الثالث من فبراير الماضي، وحدد فيه أن “ينتخب مجلس النواب رئيساً للجمهورية من بين المرشحين لرئاسة الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، ويتحقق النصاب بحضور ثلثي مجموع عدد أعضاء مجلس النواب الكلي”، وهو ما يعني ضرورة تصويت 220 نائباً على اختيار رئيس الجمهورية[5].

ومن هنا، كان الذهاب باتجاه “الثلث المعطّل” خياراً ناجعاً قوض مبادرة حكومة الأغلبية، ودفع القوى السياسية على الجلوس من أجل مشاورات تشكيل الحكومة، وسيكون خياراً يُعمل به مستقبلاً في ظل صراعات القوى السياسية التي يستعصي حلها.

ومع عدم قدرة مقتدى الصّدر على حشد ثلثي النصاب، تجمدت العملية الديمقراطية عملياً، وعجز حلفاؤه عن الصمود أمام الضغوط الشديدة التي تعرضوا لها ووصلت إلى حد استخدام العنف ضدهم، لينتهي الأمر بتقديم نواب التيار الصّدري استقالتهم من البرلمان في مايو الماضي، على أمل نزع الشرعية عن السلطة التشريعية وإعادة تنشيط قاعدة دعم التيار. وقام حلفاء التيار من الأكراد والسُّنة بتقديم استقالاتهم أيضاً، لكنهم آثروا الذهاب باتجاه التحالف مع الإطار التنسيقي، الذي شكل فيما بعد “ائتلاف إدارة الدولة”.

ولهذا، جدد الإطاريون التزامهم بـ “حق الأكثرية الشيعية” فيما يتعلق بمنصب رئيس الوزراء، وتأكيد الحفاظ على حق المكون الأكبر مجتمعياً من خلال كتل المكون الأكبر المتحالفة لتكوين الكتلة الأكثر عدداً، ومن ثم الاتفاق على ترشيح رئيس مجلس الوزراء القادم.

ولاشك فإن استقالة الصّدريين، منحت الأغلبية لكتل الإطار التنسيقي وأحزابه الذي قدم مرشحه لرئاسة الوزراء على الفور، رغم افتقاره إلى نصاب الثلثين لانتخاب رئيس جديد. ويظل السؤال المشروع والأكثر إلحاحاً حول مغزى انسحاب نواب التيار الصّدري من عضوية البرلمان، وقد أفسحوا بذلك المجال لكتل الإطار التنسيقي بالهيمنة على المشهد السياسي، وتكوين الحكومة الجديدة بحسب مبدأ التوافق الذي يرفضه التيار.

وبناءً على ذلك، تم استبدال نواب التيار الصّدري بمرشحي الإطار التنسيقي، حيث تحرك الأخير بسرعة لإعلان محمد شياع السوداني مرشحه لرئاسة الوزراء. ومن وجهة نظر التيار الصّدري فإن السوداني وهو واحد من سياسيي الصف الثاني في حزب الدعوة، تابع للمالكي وينفذ ما يطلبه منه، فضلاً عن عدم امتلاكه كتلة سياسية قوية تؤهله لفرض إرادته دون تدخلات الآخرين[6].

وبحسب وجهات نظر عراقية، فإن تفكك التحالف الثلاثي، ما هو إلا تعبير عن إدراك شركاء الصّدر صعوبة مواجهة أحزاب الإطار التنسيقي والوقوف ضده لتشكيل حكومة أغلبية وطنية. وبيّنت هذه المصادر، أن زيارة محمد الحلبوسي لإيران جاءت لتشجيعه على التخلي عن التحالف الثلاثي، الذي فقد الكثير من تماسكه بعد اعتزال الصّدر العمل السياسي[7].

من جانب آخر، ازداد التوتر حدة بين الطرفين، مع انتشار تسريبات صوتية تم بثها في يوليو الفائت على أنها بصوت المالكي، حذر فيها من احتمال اندلاع حرب أهلية ومندداً بالخصوم السياسيين، وعلى رأسهم الصّدر. لتكون في الوقت نفسه هذه التسريبات سبباً في تقويض تطلعاته في الحصول على ولاية ثالثة كرئيس للوزراء، ومطالبته بالانسحاب من العمل السياسي.

وفي 27 يوليو الماضي انتقد مقتدى الصّدر، نظام الحكم الطائفي الذي بدأ بعد عام 2003 وأعلن “الثورة” عليه، وأمر أنصاره باقتحام البرلمان، وإخلائه لاحقاً، واحتلاله مرة أخرى، ثم محاصرة مجلس القضاء الأعلى، ومطالبته بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة، وهو ما رفضه المجلس، لأن البرلمان وحده القادر على حل نفسه بحسب ما جاء في الدستور[8].

وبالتالي، فإن الخلافات والانقسامات السياسية الشيعية – الشيعية التي ظهرت علانية بعد أن كانت تحدث في السر، شكّلت تحولاً جديداً سيكون له آثاره المستقبلية في إيقاع المزيد من الفرقة والتباعد بين الفرقاء الشيعة، وسيواصل كل من التيار والإطار المناورة وإرهاق الآخر والعمل على الإيقاع به.

سابقة لم تحدث في تقاليد المرجعية الدينية الشيعية

اعتمدت إيران في سعيها لثني مقتدى الصّدر عن خلخلة الإجماع الشيعي، على نهج متعدد الاتجاهات، يراوح ما بين الإغراء والضغط والمواجهات المسلحة المحدودة، ثم إعلان المرجع الشيعي، كاظم الحائري، اعتزاله العمل الديني وهو مرجع تقليدي للتيار الصّدري، معللاً ذلك بالمرض وكبر سنّه، وأوصى باتباع مرجعية المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي.

وما هو واضح اليوم، فإن إعلان الحائري لن يؤدي إلى نزع شرعية مقتدى الصّدر، برغم ما انطوى عليه من انتقادات واتهامات بالسعي لتفريق أبناء المذهب الشيعي باسم المرجَعَين محمد باقر، ومحمد صادق الصّدر، واعتباره فاقداً للاجتهاد أو لبقية الشرائط الواجب توافرها في القيادة الشرعية. ليأتي رد الصّدر في تغريدة له على تويتر بقوله: “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم. كلا، إن ذلك بفضل ربي أولاً ومن فضل والدي محمد صادق الصّدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه”[9].

ورداً على اعتزال الحائري، أعلن الصّدر استقالته من الحياة السياسية مرة أخرى، وانطلق أتباعه لمحاصرة المنطقة الخضراء في 30 أغسطس الماضي ووقعت اشتباكات بينهم وبين الميليشيات المتحالفة مع أحزاب الإطار التنسيقي في بغداد وجنوب العراق، وخلّفت أكثر من 30 قتيلاً والعديد من الجرحى. وبكلمة مقتضبة لزعيم التيار الصّدري تغير المشهد من إراقة الدماء واحتمال بلوغ نقطة اللاعودة إلى الهدوء فجأة، حيث طلب مقتدى الصّدر من أنصاره الانسحاب خلال 60 دقيقة من المنطقة الخضراء ومن مؤسسات الدولة كلها [10].

وبالمعنى نفسه، فإن محاولة التيار الصّدري تفكيك ما أسسته إيران في حقبة ما بعد عام 2003 في السياسة العراقية، والقائم على بناء تحالف عريض للهوية الطائفية، لم يمرر بسهولة، بعد أن أضحى متغيراً رئيسياً في توجيه الأوضاع والسياسات بحسب مصالحها، ويتضمّن جهات فاعلة حكومية وعدداً كبيراً من المجموعات الميليشياوية الشيعية، حيث يعمل هذا التحالف كدولة ضمن الدولة وهو جزء من شبكة عبر وطنية[11].

وليست المواجهات التي اندلعت بين التيار الصّدري والإطار التنسيقي إلا انعكاس لثنائية أطرت العمل الحزبي الشيعي، الذي يجمع ما بين النهج العسكري والمدني في لحظة معينة، فالميل إلى استخدام القوة والدفع باتجاه العمل المسلح، من خلال نموذج الإكراه وفرض الإرادة، ثقافة رسختها أحزاب شيعية موالية لإيران.

ومن الواضح أن عدداً مهماً من أسباب الصراع بين الصّدريين وبعض عناصر الإطار التنسيقي لا علاقة لها بإيران، بما في ذلك الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية في قواعد القوة، فضلاً عن الصراع من أجل السيطرة على الموارد الحكومية، ثم الخلاف الشخصي بين رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ومقتدى الصّدر. بالإضافة إلى تزايد دور الشعبوية الصّدرية لجهة معارضتها بشكل حاد للطبقة السياسية، وتعبئة السخط الاجتماعي وتوجيهه نحو إسناد التيار والاستجابة لدعوته.

“ائتلاف إدارة الدولة”

شكل الإطار التنسيقي في 28 سبتمبر الماضي، “ائتلاف إدارة الدولة” وضم أبرز القوى الشيعية باستثناء التيار الصّدري، وتحالفي “السيادة” و”العزم”، والقوى الكردية الممثلة بالحزبين الرئيسيين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، إضافة إلى حركة “بابليّون” وقوى أخرى. وجاء في بيان الإعلان عنه أن الائتلاف سيتولى التفاوض مع باقي الكتل الراغبة في تشكيل حكومة جديدة كاملة الصلاحيات[12].

واليوم، وفي ظل نظام من الولائيات والتحاصص بمختلف صوره، فإن “ائتلاف إدارة الدولة”، نجح في عزل التيار الصّدري، بعد أن غادره شركاء الأمس، لينضموا إلى باقي القوى السياسية المنتمية إلى الإطار التنسيقي. ومع ذلك ستبقى الحكومة الجديدة واقعة تحت ضغط اشتراطات الصّدر وأهمها إجراء انتخابات مبكرة، فضلاً عن اعتراضاته على السياسات والقرارات، وقدرته على تحريك احتجاجات شعبية واسعة النطاق.

والواقع أن كلاً من الإطار التنسيقي والتيار الصّدري، فقدا الكثير من زخمهما الشعبوي؛ بعد موجة العنف المتبادل بينهما، وبرغم ذلك فإن للصّدر تأثيراً كبيراً في أتباعه، وخطبه توقع فيهم زخماً ثورياً، يحفز المشاعر الشعبيّة ويشحذ هممهم نحو الاستجابة لما يطلبه. كما لن يكون بمقدور الطبقة السياسية الشيعية جمع الشتات من جديد، وإعادة نسج الروابط بين الفرقاء الخصوم، بعد اتهامات وُجهت لميليشيات متحالفة مع الإطار التنسيقي بقتل أتباع التيار الصّدري، ومطالبة الحكومة بالكشف عن الفاعلين ومحاسبتهم.

كسر الجمود وانتخاب الرئيس

بعد صراع على السلطة استمر شهوراً، وانطوى على أعمال عنف، انتخب البرلمان العراقي يوم الخميس الـ 13 من أكتوبر 2022، السياسي الكردي عبداللطيف رشيد، البالغ من العمر 78 عاماً، رئيساً جديداً للبلاد. تولى الرئيس المنتخب بين الأعوام 2003 و2010، منصب وزير الموارد المائية. وفي عام 2010 عُيّن مستشاراً لرئيس الجمهورية ومازال مستمراً في منصبه حتى انتخابه رئيساً للبلاد[13].

وكان رشيد قد رشّح نفسه كمستقل، رغم أنه عضو سابق في الاتحاد الوطني الكردستاني، ليقوم الحزب الديمقراطي الكردستاني بسحب مرشحه ريبر أحمد من السباق التنافسي على منصب رئيس الجمهورية، شريطة عدم إعادة انتخاب الرئيس المنتهية ولايته برهم صالح[14].

ويعد هذا الانتخاب خطوة أولى في كسر الجمود الذي أصاب البلاد بالشلل وتركها دون حكومة جديدة خلال العام الماضي، وهو ما مهد الطريق أيضاً لانتخاب رئيس الوزراء مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر، محمد شياع السوداني الذي سيكون أمامه 30 يوماً لتقديم خيارات مجلس الوزراء إلى البرلمان، وهي عملية يتم إجراؤها عادةً من خلال مفاوضات الغرف الخلفية بين الأحزاب قبل تقديم الحكومة للبرلمان للموافقة عليها.

بدأ محمد شياع السوداني حياته السياسية عضواً في حزب الدعوة، ثم ترشح للانتخابات مع ائتلاف دولة القانون، وفاز بثلاث دورات في البرلمان منذ عام 2014. كما شغل منصب وزير حقوق الإنسان ما بين الأعوام من 2010 إلى 2014، ووزير العمل والشؤون الاجتماعية من عام 2014 إلى عام 2018. وفي عام 2021، أسس حركة الفراتين بعد إعلان استقالته من حزب الدعوة، ولدى الحركة ثلاثة مقاعد في مجلس النواب الحالي[15].

وقد شكر السوداني، في بيانه الأول، أولئك الذين دعموه ووعد بتقديم حكومته “في أقرب وقت ممكن”، وأن تكون “حكومة قوية” قادرة على “بناء الوطن وخدمة المواطنين والحفاظ على الأمن والاستقرار وبناء علاقات دولية متوازنة”[16].

ماذا بعد؟

لا يجانب الصواب من يعتبر في موقف الصّدر مفارقة كبيرة، فقد كان شريكاً رئيسياً في تشكيل الحكومات المتعاقبة سواء على مستوى الحكومة الاتحادية من خلال وزراء تابعين له، أو في الحكومات المحلية. فضلاً عن ترؤس قيادات تابعة للتيار لمؤسسات مهمة في الدولة. لكنه ورغم ذلك ينتقد عمل الحكومات ويتهمها بالفساد، ثم يطلب من وزراء تابعين لتياره الانسحاب، مثلما فعل هو أكثر من مرة في انسحابه من الحياة السياسية ليعود إليها من جديد.

ولذلك فمن المرجح أن يكون المشهد السياسي المقبل قائماً على الشد والجذب فلا الحكومة الجديدة قادرة على المضي في سياساتها وقراراتها بسلاسة في ظل شارع صدري قابل للانفجار استجابة لتغريدة من زعيمه، ولن يقبل الصدريون بالتهميش، فهم أكبر تيار شعبي وسياسي شيعي في البلاد، وزعيمهم يتبنّى شعارات محاربة الفساد، ويطالب بالتغيير السياسي الجذري في بنية النظام وإبعاد الفاسدين عن السلطة، أضف إلى ذلك ما ورثه مقتدى الصّدر عن أبيه من قوة اجتماعية وسياسية كبيرة، كما أنه يطيعه أتباعه بشكل مطلق تقريباً.

لهذا كله، لا يزال الصّدر مؤثراً في المشهد السياسي، لجهة استخدامه ورقة التظاهرات للتعويض عمّا خسره بخروجه من البرلمان، وصولاً إلى فرض انتخابات مبكرة عبر استخدام لعبة عدم الاستقرار الممنهج، كما يفعل عادة، ليحافظ على قوته وتأثيره في المفاوضات.

 ومع ذلك، فإن تحريك الشارع الصّدري احتمال قائم قد يذهب الصّدر باتجاهه لعرقلة عمل الحكومة، لكنه سيضطر إلى التكيف مع الضغوطات الإيرانية أيضاً التي قد يرجع إلى مظلتها، والتي لا تزال الفاعل الأكثر تأثيراً في السياسة العراقية.

وما يعزز مشهد عدم الاستقرار، بقاء النظام التوافقي عصياً على التفكك، فكثيرون من أعضاء الطبقة السياسية يرون فيه ضامناً للمزايا التي حصلوا عليها جراء انخراطهم في العملية السياسية، وهو نظام معطل للقرار السياسي لكونه يقايض أصوات أو يساومها لأجل التصويت على حزمة مشروعات، حيث تتدخل المصالح الشخصية في إقرار العديد من القوانين التي يصدرها البرلمان.

كما رسخ النظام التوافقي الفقر في بلد ريع نفطه يذهب إلى جيوب الطبقة السياسية وبطانتها، التي تقاسمت فيما بينها حصص السياسة والمال، وبناء دولة موازية تدير عمليات تقاسم الحصص والتراضي بين الفرقاء السياسيين، غير عابئة بالفقراء الذين يعيشون في عشوائيات تخلو من الاستقرار ين الاجتماعي والاقتصادي.

ومن الأمور التي لابد من وضعها في الحسبان، والتي تدلل على أن صمت زعيم التيار الصّدري، حيال عقد جلسة برلمانية لانتخاب رئيس الجمهورية لن يطول، تنامي النزعة الاحتجاجية في الشّارع الشيعي، وفقدان الثقة بين شاغلي المنطقة الخضراء وجمهورهم الساكن في المنطقة الحمراء، والمعبأ بدوافع الاحتجاج والرفض.

لذا، جاء رد مقتدى الصّدر على جلسة انتخاب الرئيس بعد يوم من انعقادها، وهاجم الحكومة المرتقبة، فيما أشار إلى أنه سيتبرأ من الذين يشاركون في الحكومة من التابعين له وطردهم.  وقال وزيره صالح محمد العراقي، في تدوينة نشرها في 15 أكتوبر 2022، نقلاً عن الصّدر قوله: “في خضم تشكيل حكومة إئتلافية تبــعية ميليــشيــاوية مجربة لم ولن تلبّي طموح الشعب ولا تتوافق مع مبدأ (المجرب لا يجرب)”. و”بعد أن أُفشلت مساعي تشكيل حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية يسود فيها العدل والقانون والقضاء النزيه وينحصر السلاح بها بأيدي القوات الأمنية الوطنية البطلة”[17].

وختاماً، ستكون مهمة تشكيل الحكومة سهلة، وذلك بسبب حالة التوافق بين القوى الموجودة في البرلمان. لكن المهام التي تنتظرها ليست بالهينة، وما حدث خلال الشهور الماضية شكل منعطفاً حاداً واجه العملية السياسية، ولعل الانتخابات المبكرة ستكون الخطوة الأولى لتخفيف التوتر وإعادة الجميع إلى طاولة المفاوضات، تتبعها خطوات تتعلق بالمساءلة والشفافية واحترام سيادة العراق واستقراره وإبعاده عن فلك التجاذبات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى صعوبة إغفال شعبية الصّدر التي بدأت تتعزز أكثر وازداد التعاطف الجماهيري معه، ليشتمل على بقية الأطياف العراقية الأخرى، جراء تبنّيه شعارات محاربة الفساد والمطالبة بالتغيير السياسي الجذري في بنية النظام وإبعاد الفاسدين عن السلطة.

ولكن هل تستطيع الحكومة الجديدة إنتاج معادلة سياسية تضع حداً للفساد وتردي الخدمات العامة وارتفاع معدل الفقر وانتشار البطالة والسلاح المنفلت، في ظل تمسك أحزاب الإطار التنسيقي بمعادلة المحاصصة ومنظومة اللا دولة التي تتحكم في سياسات البلاد بحسب المعادلات الإقليمية؟ هذا سؤال كبير متكرر تبدو الإجابة عليه في ظل المشهد السياسي المعقد والمجبول بالطائفية والمحاصصة الشللية والمناطقية أو الإقليمية أمراً غير يسير!

المراجع

[1] . بيان من “الإطار التنسيقي” بعد إعلان النتائج النهائية للانتخابات، موقع ناس، 30/ 11/ 2021/.  https://bit.ly/3eBgmzy

[2] . عقيل عباس،”الإطار التنسيقي: أنا أو الطوفان بعدي”، سكاي نيوز عربية، 14 يناير 2022. https://bit.ly/3VpPh2V

[3]. “تحالف جديد يجمع الصّدر والسُّنة والأكراد.. أعلن عن مرشحَيه للرئاسة والحكومة في العراق”، عربي بوست، 2022/03/23.  https://bit.ly/3eBUbt6

[4]. Garrett Nada, Mattisan Rowan,” Part 2: Pro-Iran Militias in Iraq”, Wilson Center, April 27, 2018, https://bit.ly/2qPQfZd

[5]. Sinan Mahmoud, Ismaeel Naar,” Iraqi president asks Mohammed Shia Al Sudani to form next government”, The national, Oct 13, 2022. https://bit.ly/3g5yoKB

 [6]. “ترشيح محمد شياع السوداني لمنصب رئيس الوزراء العراقي: التحديات والسيناريوهات”، مركز الإمارات للسياسات، 28 يوليو 2022. https://bit.ly/3Vxu5bl

[7]. “العراق: مهلة الصّدر تفكك «التحالف الثلاثي» وتعيد تماسك «الإطار التنسيقي»”، صحيفة الشرق الأوسط، 29 إبريل 2022. https://bit.ly/3EJiQGv

[8] . القضاء العراقي للصدر: لا يحق لنا حل البرلمان، العربية، 14 أغسطس 2022.  https://bit.ly/3SaBDO1

[9] . أحمد السهيل، “هل أشعل الحائري فتيل الحرب الشيعية – الشيعية في العراق؟”، إندبندنت عربية، 30 أغسطس 2022. https://bit.ly/3S54TGf

[10] . لعبة حافة الهاوية بين الصّدر وخصومه.. إلى أين يتجه العراق؟، DW، 30/8/2022. https://bit.ly/3RZoveI

[11] . غالب دالاي، “المسألة الإيرانية، إلى الساحة من جديد”، بروكينغز، 20 فبراير 2019. https://brook.gs/3TmNcTq

[12] . رائد الحامد، “هل ينجح تكتيك ائتلاف “إدارة الدولة” في تشكيل حكومة عراقية؟ (تحليل)”، الأناضول، 30/9/2022.  https://bit.ly/3MAemUz

[13] . من هو رئيس العراق الجديد عبداللطيف رشيد؟، سكاي نيوز عربية، 13 أكتوبر 2022. https://bit.ly/3T8bfFU

[14] . “دولة القانون تشيد بمبادرة سحب مرشح الديمقراطي من منصب الرئاسة”، Roj news، 10/12/2022.  https://bit.ly/3exSxsi

[15] . محمد شياع السوداني المُكلّف بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة: من هو؟، bbc، 14 أكتوبر 2022. https://bbc.in/3EKUgVO

[16] . السوداني يعد بحكومة عراقية “قوية وقادرة” في أقرب وقت، RT، 13/10/2022. https://bit.ly/3D1RACb

[17] . الصّدر يهاجم تشكيل الحكومة الجديدة: مجربة.. نوصي بعدم تحوّل العراق إلى “ألعوبة”، موقع ناس، 2022.10.15. https://bit.ly/3S1NyxH

    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *