لـلشـرعـيـــــة ثَـــمَــــــن! عوني القلمجي

لـلشـرعـيـــــة ثَـــمَــــــن! عوني القلمجي

 

منذ وقوعها تحت الاحتلال البريطاني، بعد الحرب العالمية الأولى، لم تلق قضية فلسطين أيّ اهتمام يستحق الذكر. لا من قبل دول العالم ولا من شعوبه. بل ان الصمت المخزي كان أكثر حضورا، في مواجهة وعد بلفور، وزير الخارجية البريطاني، سنة 1917، “بتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”.
كما لم تثمر شيئا التظاهرات السلمية التي قادها الشيخ أمين الحسيني، ضد الاحتلال البريطاني، وهجرة اليهود الى فلسطين. لكن الثورة المسلحة، التي قادها الشيخ عز الدين القسام ضد الوجود اليهودي والانتداب البريطاني عام 1935، قد غيرت الوضع تماما. حيث لفتت هذه الثورة المسلحة، واستشهاد قائدها، انتباه عدد كبير من دول العالم الحر وشعوبه. وخاصة الشعب العربي، واحزابه وقواه الوطنية كافة.
ان ثورة القسام المسلحة، وما اعقبها من عمليات عسكرية واستشهادية، وضعت حجر الأساس لمقاومة طويلة الامد. ودفعت الشعب الفلسطيني للالتفاف حولها. حيث وجد فيها الطريق المؤدي، لتحرير فلسطين من رجس الاحتلال البريطاني. شانه شان الشعوب، التي سلكت هذا الطريق، وحررت نفسها من رجس الاحتلال.
فالمحتل، مهما تعددت اشكاله واختلفت جنسياته، لن يترك غنيمته طواعية، او سلميا او بالتفاوض معه. خاصة وان الكيان الصهيوني لفلسطين هو احتلال استيطاني، يستولي على الأرض ويقتلع سكانها بالإبادة الجماعية، أو التهجير القسري، ويحول البلاد التي يستعمرها إلى أرض مفرغة من شعبها، ليمارس السيطرة المطلقة عليها، من خلال المستوطنين، بدعم غير مسبوق من أكبر الدول الاستعمارية وأشدها توحشا واستعدادا للقتال، من اجل حماية الكيان (الإرهابي) الصهيوني (في فلسطين المحتلة). فهو يمثل القاعدة العسكرية والسياسية لتحقيق أهدافها العدوانية. خاصة في الشرق الأوسط، وتحديدا الدول العربية، التي تعوم على بحور من النفط والغاز والثروات المعدنية والمياه والبحار وطرق المواصلات والقائمة طويلة.
في ضوء ما تقدم، يأتي حرص الدول الاستعمارية المتوحشة على هذا الكيان الصهيوني المسخ، بمفهومه الاحتلالي الاستيطاني الدائم. فهو بمثابة أضخم حاملة طائرات لها في قلب منطقة الشرق الأوسط، كما يرى بعض المفكرين. وعدم وجوده يرفع من تكلفة استراتيجياتها في المنطقة، عشرة اضعاف ما تنفقه على هذا الكيان سنويا. لذا باتت مفهومة العوامل، التي تجعل الاحتلال الصهيوني على خلاف الاحتلالات الأخرى، التي تنسحب أحيانا بعد تنفيذ مهماتها، او تحقيق أهدافها او سرقة ثروات الشعوب..
وفق هذه المفاهيم لم يستسلم الشعب الفلسطيني، ولم يتنازل عن سلاحه، منذ احتلال فلسطين سنة 1917 من القرن الماضي ولحد يومنا الحاضر. وقد اثبت بانه شعب مقاتل او شعب الجبارين. وتجدر الإشارة هنا، ان المقاومة المسلحة لا تسير بوتيرة واحدة. فعلى سبيل المثال، تراجعت المقاومة المسلحة في مرحلة معينة، كما حدث بعد قرار تقسيم فلسطين سنة 1947، وهزيمة الحكام العرب امام العصبات الصهيونية سنة 1948.
وكذلك في فترات لاحقة، لكنها سرعان ما تعود كالزلزال. وهذه صفة تجمع كل حركة مقاومة ضد المحتل. فمرة تأخذ موقع الهجوم ومرة تنتقل للدفاع ومرة تنسحب، لكن في جميع الظروف لم تلجا الى المساومات الرخيصة او الاتفاقيات المذلة.
وليس ادل على ذلك، من عودة المقاومة الفلسطينية المسلحة، في اول فرصة سنحت لها. حيث أسس الشعب الفلسطيني منظمة التحرير، في مؤتمر القمة العربي الأول، الذي عقد في القاهرة بتاريخ 13/1/1964، استجابة لدعوة الرئيس (العربي الراحل) جمال عبد الناصر، لمواجهة مشروع الكيان الصهيوني، لتحويل مجرى نهر الأردن. وقد مثل تشكيل منظمة التحرير، تطورا مهما باستلام الراحل ياسر عرفات قيادتها. حيث اتخذت قرارا بتفعيل البندقية لتحرير فلسطين.
وكانت اول الحروب التي خاضتها ضد الكيان الصهيوني، معركة الكرامة المشرفة عام 1968، بدعم من الجيش الأردني، والحقت هزيمة نكراء، بطائرات المحتل ودباباته ومدافعه والوية مشاته خلال 15 ساعة.  الامر الذي عزز الثقة بجدوى الكفاح المسلح، الى درجة رفضت فيها، منظمة التحرير، كل الحلول السلمية، التي توالت بعد نكسة حزيران 1967. ومن ضمنها القرار 424 و338، الذي يقضي بانسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي التي احتلها بعد النكسة مقابل الاعتراف به.
لقد نالت المقاومة المسلحة، الدعم اللامحدود من قبل الشعب الفلسطيني. وانضوت تحت لواء البندقية جميع الأحزاب والمنظمات السياسية الوطنية والاجتماعية، وكافة الفصائل المسلحة والمجموعات الفدائية، فاستحقت تسمية المنظمة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وتبوأ ياسر عرفات، مكانة مرموقة بين رؤساء الدول العربية وملوكها، وكبار رؤساء دول العالم، ليصل الى منصة الأمم المتحدة، ويخاطب أعضاءها باسم الشعب الفلسطيني، مؤكدا على مشروعية الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. واستقبل خطابه من قبل أعضاء المنظمة بالأعجاب والتصفيق، بعدها بعدة أيام، وتحديدا في 22 نوفمبر 1974، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3236، اعترفت بموجبه “بحق الشعب الفلسطيني، في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة في فلسطين”.
كما اعترف القرار بمنظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، ومنحها مقعد مراقب في الأمم المتحدة. الامر الذي اجبر الحكام العرب على الإقرار بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في الرباط يوم 26 نوفمبر تشرين الثاني عام 1974، لتصبح للمقاومة قواعد مسلحة في الأردن ولبنان وسوريا. وقد سطرت المقاومة الفلسطينية المسلحة بقيادة منظمة التحرير، ملاحم بطولية ضد الكيان الصهيوني، لكن حكام الردة العرب اصابهم الرعب من توجه المنظمة الى السلاح لتحرير الأرض. فكرروا فعلتهم المشينة عام 1948، فتواطأوا مع الكيان الصهيوني ضد المنظمة، والحقوا بها هزائم مؤلمة. بدأت بإخراجها من الأردن 1970، ثم من لبنان 1982K وانتهت زعاماتها ضيوفا على الحكومة التونسية.
هذه المؤامرة الكبرى، التي حاكها التحالف الأمريكي الصهيوني مع حكام الردة ضد المقاومة الفلسطينية، لم تتعرض لمثلها اية حركة تحرر في العالم، ولا مقاومة ضد محتل. فبالإضافة الى الهزائم، انقلب القائد الثائر ياسر عرفات على عقبيه، وتحول الى عراب التسويات السلمية مع المحتل، وقاد منظمة التحرير الى عقد اتفاقيات مذلة مع الكيان الصهيوني، فرطت بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، فاقت مذلة الاتفاقات، التي عقدتها مصر والأردن ودول عربية وامارات خليجية.
وكان النموذج الاسوأ لهذه الاتفاقيات وأشدها ضررا، اتفاق أوسلو مع الكيان الصهيوني، سنة 1993. حيث تضمن اعتراف المنظمة، اعترافا كاملا بهذا الكيان، وبسيادته على 78 في المئة من ارض فلسطين التاريخية، مقابل إقامة سلطة فلسطينية منزوعة السلاح، على المساحة المتبقية من ارض فلسطين، في مدة أقصاها سنة 1999. ليخرج عرفات بسواد الوجه. فبدلا من التزام الكيان الصهيوني بتنفيذ هذا الاتفاق في موعده المحدد عام 1999، واصل حكامه سياساتهم العدوانية ضد السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومنها بناء مزيد من المستوطنات المسلحة، على حساب الأراضي الفلسطينية، المشمولة بتلك الاتفاقية المشؤومة.
لقد ارتكبت منظمة التحرير، وياسر عرفات بالذات، خطأ استراتيجيا قاتلا احتاج الى ثلاثة عقود لتخطيه. حيث حدث خلالها خلافات حادة داخل حركة فتح، وبين فتح والفصائل الأخرى. فعلى سبيل المثال، شكل في نهاية عام 1974 صبري البنا، أبو نضال، حركة تحت اسم حركة فتح المجلس الثوري. وفي سنة 1980 استقل عبد الكريم حمدي، بتنظيم مستقل سماه فتح مسيرة التصحيح. وفي سنة 1983، قامت مجموعة من القياديين البارزين في فتح، بزعامة نائب قائد قوات العاصفة، نمر صالح والعقيدين أبو موسى وأبو خالد العملة، بتأسيس تنظيم، سمي بفتح الانتفاضة شق فتح لنصفين. وأدى الى عدة معارك بين فتح والمنشقين في البقاع وطرابلس وبيروت سميت بمعارك المخيمات. لتنتهي الى تشكيل جبهة رفض ضد منظمة التحرير وياسر عرفات على حد سواء. حيث دخلت المنظمة في نفق مظلم لا ضوء في نهايته.
لكن شعب الجبارين، رفض في نهاية المطاف، الاستكانة واستجداء الحقوق من محتل غاصب. حيث خرجت من رحم الهزيمة، مقاومة اشد قوة وأكثر فاعلية، اتخذت من قطاع غزة قاعدة انطلاق لها، بصرف النظر عن التوجه الإسلامي لغالبية فصائل المقاومة في غزة. فالإسلام السياسي مثل في مراحل عديدة العمود الفقري لمقاومة المحتلين.
علي سبيل المثال، لعب رجال الدين في ثورة العشرين المجيدة ضد المحتل البريطاني، دورا بارزا الى جانب العشائر وتجار المدن. وكذلك ثورة المهدي في السودان، وخير الدين باشا في تونس، وعبد القادر الجزائري وابن باديس في الجزائر، وعز الدين القسام في فلسطين، وعمر المختار في ليبيا، وهؤلاء خاضوا الكفاح المسلح في بلدانهم تحت شعارات الجهاد.  لكن جهادهم في الوقت نفسه، مثل كفاحا وطنيا ضد الاستعمار.
وإذا كان السبب في تلك الفترة غياب الأحزاب والمنظمات السياسية والعلمانية واليسارية، فان ما يحدث اليوم مشابه لما حدث بالأمس. فقد تغيب معظم الأحزاب والقوى الوطنية عن ساحات الكفاح. بل ارتضى بعضها التعاون مع المحتل، وأصبح العهر السياسي والخيانة بالمفرد والجملة، وجهة نظر ومسالة خاضعة للنقاش. هذا ليس دفاعا عن الإسلام السياسي لا في غزة ولا في غيرها. فكاتب هذه السطور ذو توجه قومي يساري، وانما هو إقرار بالواقع.
ثم هل بإمكان أي وطني يقاتل المحتل، وفي الوقت نفسه يرفض عملية طوفان الأقصى البطولية، التي أصبحت حديث العالم، ونالت احترام شعوبه، لتخرج الملايين في بقاع الأرض، تأييدا للشعب الفلسطيني، في سابقة تاريخية لا شبيه لها اطلاقا، اعادت ملف القضية الفلسطينية الى الصدارة، بعد ان طواها النسيان، او كادت تدخل في خانة الذكريات الوطنية؟
اما على ارض الواقع، وفيما يخص المقاومة المسلحة في غزة، صاحبة القرار الأول والأخير، فان شعب فلسطين عموما، يقف خلفها ويشكل حاضنتها الاصيلة.
ومن يدّعي بان شعب فلسطين في الضفة الغربية رفض عملية “طوفان الأقصى”، فهذا ادعاء تكذبه التظاهرات في الضفة، والتي استشهد فيها مئات الفلسطينيين، واعتقل الالاف من ابنائها، عبر اقتحامات متواصلة لقوات الاحتلال للعديد من المخيمات، وتدمير همجي للمدن، مثل طول كرم وجنين ونابلس وبيت لحم وغيرها الكثير.
ان الكيان الصهيوني بكل قدراته العسكرية، ونزعته العدوانية التدميرية، فشل ويفشل في عزل المقاومة عن حاضنتها الاصيلة، المتمثلة بالشعب الفلسطيني في الضفة وغزة. بل ان فلسطينيي 48، الذين تحت سلطة الاحتلال، ويحملون الجنسية الإسرائيلية، يقفون اليوم خلف المقاومة، في غياب كامل للسلطة الفلسطينية المعزولة والمدانة، الامر الذي اضطر رئيسها محمود عباس، الى التراجع عن تصريحاته المسيئة، ليدين الإبادة الجماعية في غزة، ويطالب بوقف الحرب فورا. ترى هل ما تزال السلطة الفلسطينية، برئاسة محمود عباس المعزولة عن شعبها، هم الممثلون الشرعيون للشعب الفلسطيني؟ ام ان الذين يحملون السلاح هم من يمثل الشعب الفلسطيني؟
بعد كل ما حدث ويحدث، هل يليق بشعب الجبارين، الشعب المقاتل، الشعب الذي قاد عملية “طوفان الأقصى”، ان تمثله السلطة الفلسطينية، التي تعد اليوم أداة امنية بيد حكومة الكيان، وتنفذ أوامر رئيسها (الغرهابي الصهيوني) بنيامين نتنياهو؟ ان السؤال الأشد حضورا، ترى الا يحق لغزة اليوم، بمقاتليها ومقاومتها وشهدائها وتضحياتها، ان تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعد ان اوفت بكامل استحقاقات هذا التمثيل، وسددت الثمن غير منقوص؟!